الحديث عن أوضاع مجتمعاتنا العربية الشرق أوسطية حديثٌ لا يمكن تغطية معالمه ومؤثراته في مقالةٍ واحدة؛ ولا في عددٍ من مجلة، وأكاد أقول: ولا تمكن تغطيته في كتبٍ موسوعية؛ فالبحث في هذه الدائرة الجغرافية يتفرع بنا الى العديد من العوامل والظروف والحقائق التي سيحتاج كلٌ منها الى دراسة معمقة.
ما نهدف إليه من هذه الدراسة المختصرة هو إعطاء صورة عامة شاملة لما تعيشه المجتمعات في تلك المنطقة، ما يؤثر في ظروفها وفي تفكير شعوبها وفي نمط حياتهم.
ما يجب علينا جميعاً الإقرار بواقعيته أولاً هو أن ما وصلت إليه مجتمعاتنا من أوضاعٍ متردية (في جميع النواحي) أمر واضح و متفق عليه وآثاره جلية في كل أمر يخص حياة أي فرد من أفراد تلك المجتمعات.
ما يثير الحنق والغضب هو أن الأكثرية في شعوب الشرق الأوسط تعاند وترفض هذه الحقيقة وتصر على أن ما يحدث هو من صنع أيادٍ خارجية تعمل في الخفاء على تدمير منجزات شعوبنا وحضارتنا... فأقول: "وأين هي معالم هذه المنجزات وصورة تلك الحضارة التي يتكلمون عنها ليل نهار؟"
و إذا كانت (ولستُ من المؤمنين بهذه الفكرة على الإطلاق) بالفعل هناك مؤامرة دولية (من الكل على ظهر هذا الكوكب) ضدنا وضد شعوبنا، فالأجدى أن نسأل: "وما الذي فعلناه ونفعله للتصدي لهذه الحملة العالمية؟ وما هي الخطوات التي اتخذناها لحماية أنفسنا وحضارتنا و منجزاتنا (غير المرئية) من تلك الحملة؟"
ما يمكن مشاهدته للأسف هو أن هذه العقلية الإتكالية (حتى في تكوين أسباب وهمية للمشكلات التي تعيشها مجتمعاتنا) يتم توريثها من الآباء للأبناء وكأنها ميراث، وكأنه الـ DNA الذي يجب أن يكون من عناصر الكيان النفسي والأخلاقي والعملي في حياة أفراد مجتمعاتنا.
من العوامل التي يمكننا ذكرها، والتي كانت - ولا تزال - من مسببات هذا الواقع المرير، ما يلي:
- غياب ديموقراطية حقيقية في أي جزء من أجزاء دولنا العربية... و الديموقراطية التي نود إيجادها في منطقتنا ليست تلك الخاصة بالتوجه الى صناديق الاقتراع لاختيار رئيس دولة أو مجلس برلماني؛ لكن الانتخاب هو ما يمكننا تشبيهه بالخطوة الأولى التي يقوم بها الطفل لأول مرة؛ بعدها يجب أن تليها العديد من الخطوات وإلا فإن ذلك الطفل سيستمر في الزحف على أربع الى الأبد... الخطوات التالية هي حرية الرأي والتعبير، حرية الأقليات، حرية المرأة، الحرية الدينية، القضاء المستقل العادل وغيرها الكثير الغائب عن ذهن الكثيرين في المجتمعات موضع البحث.
ولكن سنرى أن العديد من هذه الخطوات محظور للعوامل التي ستلي في بحثنا هذا.
- تدني مستوى التعليم: وهذا أمر أشد أهمية من غياب الديموقراطية؛ فغياب - أو تغييب- المستوى الراقي للتعليم في دولنا هو ما يساهم بشكل كبير في منع أفراد مجتمعاتنا من التقدم والتطور والإبداع.
عند تركيز مناهجنا التعليمية على مقررات بلا نفع على مدى عقودٍ متتالية أو استمرارها في تقديم حقائق علمية (بشكلٍ تلقيني) دون تجديد وتطوير ومتابعة للتطور العلمي المستمر في دول العالم المتقدمة سيكون من المستحيل الوصول الى مستوى علمي ثقافي قادر على إحداث تغييرات حقيقية في المجتمع.
عند الاستمرار في رفض إيراد نظريات علمية أصبحت منذ سنين عديدة تُدرّس في معظم مدارس وجامعات العالم كحقائق مُثبتة فهذا مؤشرٌ على خطورة الوضع.
عند الاستمرار في زيادة و تعظيم المقررات الدينية واللغوية والأدبية العربية على حساب الكتب العلمية والتاريخية والأدبية العالمية فهذا مؤشرٌ آخر على خطورة الموقف.
- تأثير ممثلي الدين: الحديث هنا لا يمت للمعتقدات الدينية (في أي دين) بصلة... ومع إيماني بوجوب حرية المعتقد الديني وأداء شعائر هذا المعتقد... فإنها حقيقة أن مُدعي العلم بالدين كان لهم في الماضي، كما أن لهم الآن، تأثير كبير في حياة شعوبنا... وهذا التأثير - السلبي على الدوام - هو من أكبر المؤثرات التي تمنع مجتمعاتنا من التقدم في المجالات الفكرية والحضارية والعلمية وحتى السياسية.
أصبح مُدعو العلم بالدين مرجعاً لكل شخص (مع استثناء قلة) في كل صغيرة وكبيرة في شؤون حياته؛ وكأنهم بشر على درجةٍ أعلى من بقية البشر، وكأنهم يعلمون من حقائق الكون ما لا يعلمه أكثر علماء الفيزياء والفلك والكيمياء والطب في جامعات العالم أجمع... تجاوزوا الدين ليتحدثوا عن العلم بكافة فروعه (وتصنيف المفيد منه والضار.. والمحلل منه والمحرم) وعن الفكر (ما يجب أن يُنشر وما يجب ألا يقرأه الناس... ومَن من الكُتاب مؤمن ومَن منهم كافر)... و للأسف فإن غياب العملية التعليمية الحقيقية التي توصل الى عقول أولادنا المفيد من العلوم والتي تمكنهم من البحث والدراسة والتحليل باستقلالية هو السبب الرئيسي في هذا السلطان الذي وصله مُدعو العلم بالدين.
- غياب فكر المعرفة: وهو رغبة الفرد في الاستزادة العلمية والفكرية والأدبية والدينية بشكل مستقل؛ أو بكلماتٍ أخرى هو تأصل الرغبة في القراءة في عادات وهوايات أفراد شعوب دول الشرق الأوسط... فباستثناء القراءة في مواضيع مرتبطة بالدين والتاريخ الاسلامي (بأجزاءٍ منه دون أجزاء) فإنني أجزم بأن نسبة القراء في منطقتنا منخفضة للغاية... هناك مفهومٌ غريب محواه أن القراءة في كتب الدين - بفروعه - تكفي... ولا حاجة الى الدراسة والاطلاع والمعرفة والقراءة في المواضيع الأخرى؛ في العلوم الفيزيائية، في الفلسفة، في الأدب (العربي والعالمي)، في العلوم الانسانية وفي غيرها الكثير.
قد يعتقد البعض أن غياب فكر المعرفة مرتبط بالمستوى التعليمي، لكني أعتقد أن هذا العامل مستقل؛ فكم من المبدعين في العالم لم تمكنهم ظروفهم من الحصول على درجات علمية، ومع ذلك فقد ساهموا بشكلٍ كبير في تطور الحضارة الإنسانية.
- فصل مصير الانسان في منطقتنا عن مصير الإنسان بعمومه: هناك ازدياد ملحوظ في هذا الشعور لدى أبناء شعوبنا؛ هناك "نحن والآخرون"... هناك جدار عقلي ونفسي يفصل الإنسان في منطقتنا عن عموم البشر.
"هناك الإنسان العربي المسلم وهناك الآخرون الذين لا يهموننا... مصيرهم ليس مصيرنا" و كأن الانسانية مقسمة؛ فيفرح الكثيرون لرؤية كوارث تصيب شعوباً أخرى دون أدنى شعورٍ إنساني طبيعي بأن كارثة معينة في دولة ما هي كارثة بشرية... فقَدَ الكثيرون هذا الشعور بالانسانية المشتركة بين كل البشر بغض النظر عن أي رابط ديني أو عرقي أو قومي.
- التباطؤ والكسل: مع عدم اعتبار الكثيرين لهذه النقطة، إلا أنني أعتقد أنها من أهم المشكلات لدى شعوبنا... "الزمن ليس له قيمة"... ما لا ننجزه اليوم، سنتممه في الغد.
هذا التباطؤ، بل واعتباره شيئاً طبيعياً في حياتنا، في التأجيل، هو من أخطر ما علينا مواجهته.
ونجد هذا العامل في العديد من المقولات الشعبية التي عفى عليها الزمن والتي، للأسف، يعمل بها معظم أفراد مجتمعاتنا، مثل "ينتهي العمر ولا ينتهي العمل"، هذه المقولات وما شابهها هي من أكثر العوامل الهدامة في حياة شعوبنا.
في الختام، فقد قمت بعرض أهم النقاط التي (حسبما أعتقد) في معالجتها يكمن الحل؛ وفي تغييرها وإعادة تشكيلها يمكن لشعوبنا أن تتحرر من تبعات السنوات والعقود بل والقرون الماضية... للانطلاق نحو المستقبل.