في يناير الماضي شهد
العالم حدثاً في غاية الأهمية، ربما لم يتصدر أخبار القنوات التلفزيونية ولم يظهر
على الصفحات الأولى من الجرائد والمجلات... وبخاصة في منطقتنا العربية... إلا أن
الأمر يحتم علينا جميعاً التوقف والتفكر فيما حدث وفيما يحدث؛ في لامنطقية الوقائع
التي نراها، وفي غياب أكثر أسس التفكير السليم بديهية في أمور لا يعيرها الكثيرون
اهتماماً؛ رغم أنها تتراكم لتشكل مستقبلنا؛ مستقبل البشرية، وأسلوب الحياة الذي
ستسير وفقه مجتمعاتنا الإنسانية في أنحاء الأرض.
آرون شوارتس Aaron Swartz، في السادسة والعشرين من عمره، شاب لامع، عده الكثيرون عبقرياً في مجال تكنولوجيا المعلومات
وبرمجة الكمببوتر... فقد كان له دور كبير في تطوير صيغة بيانات RSS وفي إنشاء المنظمة غير الربحية Creative Commons (والتي تصفها موسوعة ويكيبيديا بأنها "تهدف
إلى توسيع مجال الأعمال الإبداعية المتاحة للناس لاستغلالها والبناء عليها على نحو
يتوافق مع متطلبات قوانين الملكية الفكرية")... وقد ساهم بالجهد الأكبر
لتصميم وبرمجة Reddit الذي يصفه المصدر ذاته بأنه
"مجتمع أخبار إلكتروني على الإنترنت"... إضافة إلى ذلك، فقد كان شوارتس
كاتباً وأحد أشهر نشطاء الإنترنت فيما يتعلق بحرية الوصول إلى المعلومات والحث على
ضرورة أن يكون من حق الجميع الحصول على أي وثائق أو مؤلفات مفيدة لهم؛ إن لم يكن
الهدف من ذلك هو الربحية.
هذا الشاب، قام باختراق مكتبة
إلكترونية تدعى JSTOR وتنزيل عدد كبير من المجلات
العلمية والوثائق الأكاديمية من أجهزتها الخادمة وحفظ تلك الملفات على جهاز
كمبيوتر محمول خاص به... الذي حدث بعد ذلك كان أغرب من الخيال، فقد تم إلقاء القبض
عليه وتوجيه تهمة إليه بارتكاب جريمة السطو بالتسلل والاقتحام (أو ما يعرف
بالإنجليزية باسم Breaking-and-Entering)؛ هذا إضافة إلى توجيه أكثر من
عشر تهم أخرى إليه تتعلق بقوانين الاحتيال الإلكتروني؛ علماً بأن تلك القوانين
تعود إلى العام 1986... المدعية العامة في القضية طالبت بتطبيق أقصى عقوبة على
شوارتس؛ وقد يتساءل البعض عن عقوبة شاب في مقتبل العمر قام بتنزيل مجلات علمية
ووثائق إلكترونية... العقوبة التي كان قد يتعرض لها هي السجن 35 عاماً وغرامة
مالية تصل إلى مليون دولار.
قبل أن نواصل حديثنا هنا
عن شوارتس، علينا أن نعرف أن عقوبة القتل العمد في الولايات المتحدة وفق القانون
الفدرالي (وليس القوانين المختلفة لدى كل ولاية منفردة) تصل إلى 29 عاماً وشهر واحد فقط... في حين أن القوانين تحدد العقوبة الخاصة بجريمة السطو بالتسلل
والاقتحام في حالة عدم وقوع اعتداءات على أشخاص بستة أشهر في معظم الحالات؛ بخاصة
للجريمة الأولى... وللوصول إلى إدراك أكبر لصورة الواقعة؛ فقد تحدثت وسائل الإعلام
عن جريمة وقعت في اليونان قبل أيام؛ عندما قام رجل هولندي بسرقة كمبيوتر وهاتف
محمول من طفل روسي الجنسية يبلغ عمره 11
عاماً، وعندما اكتشف الطفل السرقة وواجه السارق بالأمر، قام المجرم الهولندي بطعنه
20 مرة وتركه عندما اعتقد أنه فارق الحياة... الطفل، لحسن الحظ، لم يمت... وقد تم
إلقاء القبض على المتهم... لماذا قررت ذكر هذه القصة؟ لأن التهمة التي وجهت إلى
الهولندي قد تجلب له حكماً أقصاه السجن 20 عاماً؛ طعن طفل عمره 11 عاماً 20 مرة
بنية القتل، بعد السرقة، كل هذا عقوبته السجن لمدة أقصاها 20 سنة... في المملكة
المتحدة، جريمة السطو باستخدام سلاح ناري عقوبتها القصوى السجن 13 عاماً؛ أما في
ولاية نيويورك، فعقوبة السطو تتراوح بين عام واحد و7 سنوات في أدنى مستوياتها وبين
عام واحد و25 سنة في أقصاها... في قصة أقدم بعض الشيء؛ إذا عدنا إلى الوراء عقدين
من الزمان، كانت هناك قضية تيد كاتشينسكي الذي عُرف باسم Unabomber؛ هذا الشخص الذي تصفه الحكومة الأمريكية بأنه إرهابي، إذ قام
بتنفيذ تفجيرات عدة في أنحاء الولايات المتحدة أدت في مجموعها إلى مقتل 3 أشخاص
وإصابة 23 آخرين، كان الحكم الذي حصل عليه هو السجن مدى الحياة؛ بمعنى أنه لم يجبر
على دفع أي غرامة مالية تضاف إلى الحكم الذي صدر بحقه.
بالعودة إلى شوارتس... رغم
سحب مكتبة JSTOR للدعوى المقدمة ضده، فقد واصلت
المدعية العامة القضية بذريعة "الحق العام"...وبعد معرفته بما قد يحصل
له وبطبيعة الحكم الذي قد يصدر بحقه... أصيب شوارتس بحالة من الاكتئاب، وبدافع من اليأس
الذي شعر به، أقدم على الانتحار في 11 يناير 2013... والمحزن في الأمر، أن المكتبة
المذكورة قررت بعد ذلك فتح محتواها الإلكتروني أمام الجميع وبالمجان.
الهدف من كتابة هذا
المقال هو توضيح أن الأمر المتعلق بما يسمى بـ"جرائم الإنترنت" قد تجاوز
كل حد ويجب العمل والدفع باتجاه التصدي له ومواجهته وتغيير القوانين الخاصة به... قوانين
الملكية الفكرية لا يجب أن تعني منع تبادل المعلومات ونشر الثقافة واستفادة
المجتمعات من محاصيل العلوم والمعارف والفكر في كافة المجالات... قوانين الملكية
الفكرية لا يجب أن تكون السيف المسلط على رقاب الفقراء الذين ليست لديهم القدرة
على شراء "المعرفة" المحتواة في الكتب والمجلات والوثائق الأكاديمية...
الملكية الفكرية لا تعني إلغاء حرية الوصول إلى المعلومات إن كان الغرض هو
الاستفادة الشخصية وليس البيع والتجارة والتربح المالي.
آرون شوارتس كان قد أوضح لنا ما يشهده العالم بقوله: "إرث العالم العلمي برمته يتم تحويله إلى الصيغة
الرقمية واحتجازه من قبل شركات خاصة معدودة... "حركة الوصول المفتوح" Open Access Movement قاتلت ببسالة لضمان ألا يقوم
العلماء بالتخلي عن حقوق ملكيتهم الفكرية، بل لكي يقوموا بنشر أبحاثهم على
الإنترنت، بموجب شروط تسمح للجميع بالوصول إليها." هذا ما كان يريده شوارتس؛
ضمان وصول العلم والمعرفة إلى الجميع، ومن دون أية معوقات؛ قانونية أو غيرها.
جنيفر تشان وصفت شوارتس في
الأول من فبراير على صفحات مجلة U.S.News & World Report بأنه مبتكر وذو رؤية خارقة، وكتبت لتؤكد أن إيصال المعرفة إلى الناس
يجب أن يكون المهمة المركزية للمؤسسات والمجتمع الأكاديمي.
في نهاية المطاف، علينا
أن نؤكد أن الوصول إلى المعلومات حق أساسي من حقوق الإنسان... ويجب علينا جيمعاً
العمل كي يتم احترام هذا الحق وأن يتوقف عالم المال عن التدخل في دنيا العلوم
والمعارف الإنسانية وفي دوائر الثقافة والتعليم في كافة أنحاء العالم.