نحن نحب
كثيراً الأمور "الأكبر من الحياة".. ونصر على أن تلك الأمور موجودة.. لا
أعرف لماذا.. لكننا جميعاً بدأنا حياتنا أطفالاً، وربما يساهم ذلك في تفسير
المسألة.. كونُنا الطفولي كانت تحيط به الأم والأب، اللذان كانا أقوى بكثير منا وامتلكا
قدارت كان حجمها غامضاً بالنسبة إلينا، لدرجة أنها كانت فعلياً لا نهائية.
كنا نتوجه
إلى والدينا للحصول على الراحة والحماية، وقد تكون خيبة الأمل الكبيرة الأولى في
حياتنا هي إدراك أنهما في نهاية المطاف ليسا أكبر من الحياة.. كلما كبرنا في
العمر، وازدادت قوتنا (وربما حكمتنا)، كلما أصبح من غير الممكن لنا تجنب الوصول
إلى تلك النتيجة، على مضض.. مهما حاولنا رفض رؤية الحقيقة؛ فإن والدينا سيكبران في
العمر وسيشيخان وتضعف قوتهما، وسيضطران إلى الاعتماد علينا، وبعد ذلك، قمة الخيانة
بالنسبة إلينا؛ سيموتان، حتى لو تجنبا الوقوع في حوادث، وبغض النظر عن محاولاتنا
للعناية بهما.. لا يمكننا استبدالهما.. لا أحد في العالم يمكن أن يكون مثل الأم
والأب اللذين عرفناهما في طفولتنا.. لكن، أيضاً لا يمكننا الحياة من دونهما، ولذلك
نعتمد على خيالنا.
أتساءل: الآلهة،
التي اخترعها البشر وأعدادها لا تحصى، إلى أي مدى تدين بوجودها إلى الرغبة الملحة
في امتلاك آباء وأمهات أبديين وأكبر من الحياة، ولا يخونون دورهم بأن يسقطوا في
حالة العجز والموت، كما يحدث للوالدين البشرييْن؟
الآلهة تكبر
لتصبح مع الزمن كاملة الأوصاف، وتنأى بنفسها عن الإنسانية، إلى أن تصل النقطة التي
تتحول عندها إلى خيال.. ولأغراض التأليف الأدبي، تصبح أنصاف الآلهة مُرضيةً أكثر؛
فهي أكبر من الحياة، نعم، لكن ليس للدرجة التي تحول دون شعورها بالألم والهزيمة من
وقت لآخر.. هي أكبر من الحياة، لكنها جزء منا؛ تشبهنا.. (حتى أن الآلهة كانت أكثر
شعبية عندما كانت تشبه البشر لدرجة معاناتها من الموت؛ حتى ولو مؤقتاً - مثل بالدُر
]إله الضوء والصفاء في الأساطير
الإسكندنافية[، وتمّوز ]أحد حارسيْ بوابة السماء لدى السومريين[،
وأدونيس ]شخصية مركزية في معتقدات ساميي بابل
وسوريا واليونان القديمة[ وغيرهم.. للتأكيد، كانت لهذه الشخصيات رمزية
تتعلق بموت النباتات في فصل الشتاء، لكن لمسة الإنسانية لديها والمتمثلة في موتها
جعلتها محببة لمن يعبدونها، وقيامتها بعد ذلك من الموت منحت أتباعها أملاً بأن
الموت يمكن الانتصار عليه في نهاية المطاف، وبأن الفراق الذي يتسبب به الموت قد لا
يكون دائماً).
القصة
الملحمية الأولى التي نعرف عنها تعود إلى نحو خمسة آلاف عام مضت، وهي من أصول
سومرية.. إنها حكاية غلغامش، ملك مدينة أوروك، الذي كان أكثر قوة وجرأة من أي
إنسان.. هو شخص يمكننا أن ننسب إليه أعمالأ أعظم من أن يقوم بها إنسان، ومغامرات
أكبر من أن يخوضها إنسان، ومعاناة أكبر من أن يتحملها إنسان.
كل حضارة
تخلق بطلها الخارق الخاص بها.. الإغريق كان لديهم هرقل، العبرانيون كان لديهم
شمشون، الفرس كان لديهم رستم، الأيرلنديون كان لديهم كوخولين.. كل منهم شق طريقه
في عالم عدائي بالاعتماد على قوته العضلية، التي كانت تعوض عن قلة ذكائه.. ومن حين
لآخر، عندما تكون الحكمة "الأكبر من الحياة" مطلوبة، كانت تظهر من خلال
معارف مرتبطة بالسحر، كما كان الحال مع ميرلين من ويلز، أو فايناموينين من
فنلندا.. وبغض النظر عن مدى نجاح حكايات السحرة والمحتالين، لم يكن هناك شيء يحرك
القراء مثل الرجال ذوي العضلات القوية؛ كانت ضربة السيف السريعة هي الأكثر أهمية..
ربما لأن القارئ العادي يشعر برابط أفضل بوجود العضلات القوية في القصة، مقارنة مع
العقل الذكي – كان هناك احتمال أن يطور الإنسان شيئاً مشابهاً للقوة العضلية، لكن
الذكاء لم يكن أساسياً.. على مر التاريخ، كان الأبطال "الأكبر من
الحياة" ذوو العضلات القوية يواصلون غزوهم للمجالات الأدبية.. في العصور
الوسطى، كان لدينا الملك آرثر وفرسانه، بمعية لانسيلوت المنتصر دائماً، يمثلون قمة
الشهامة والفروسية؛ والتي لم تكن أبداً موجودة في الواقع.. وكان هناك الملك
شارلمان ومناصروه، الذين تقدمهم قائده العسكري رولاند.. ثم جاء اليوم، الذي حكم
البارود فيه العالم، لتصبح العضلات والدروع من دون فائدة؛ عندما أمكن لشخص جبان،
بعضلات ضعيفة، بائس من عائلة وضيعة، أن يستهدف السير لانسيلوت ويسقطه أرضاً بثقب
فُتح في صفيحة الدرع بمنطقة الصدر.. واحسرتاه على الخيال البطولي.. آه لو لم يمت
هذا الخيال!
الأدب
المعاصر يعوّض ذلك الموت بإعطائنا مواصفات مضخمة بأنواع متعددة.. مازالت لدينا
روايات الألغاز الخاصة بأبطال "أكبر من الحياة" – من أمثال شيرلوك هولمز
وإيركول بوارو.. لدينا البطلات والأبطال "الأكثر جمالاً من الحياة" في
القصص الرومانسية، ولدينا أخطار "أكثر إخافة من الحياة" خاصة بروايات
القوطيين Gothics والقصص المرعبة، ... إلخ.. حتى أننا بتنا نستخدم
البارود بهدف اختراع أبطال "أسرع من الحياة" من زمن الغرب الأمريكي
القديم Wild West؛ قادرين على إصابة العدو الشرير حتى بعد أن
يسمحوا له بأن يستل مسدسه أولاً.. لكن لا شيء يغني عن العنف بشكله المباشر.. في كل
نوع من الآداب المكتوبة، ينتهي بنا المطاف إلى مشاجرات بالأيدي – نوع من أنواع القتال،
التي نادراً ما نشهدها في حياتنا اليومية.. المحققون يقاتلون، أبطال الغرب
الأمريكي يلقون اللكمات، العشاق في القصص الرومانسية ينخرطون في استعراضات
ملاكمة.. هذا حقيقي بشكل خاص في التلفزيون وأفلام السينما، إذ لا تترك هذه الأمور
أي كدمات على الوجه ولا شعراً منفَّشاً، بالرغم من أن صوت ضربات العظم على العظم
قوي جداً.. لكن حتى هذا لا يكفي؛ مازلنا نريد العودة إلى أيام ما قبل البارود؛
عندما كانت هناك حاجة للعضلات ذات الرأسين Biceps لرفع السيوف
الكبيرة، وعندما كان على البطل العثور على طريقة ما لهزيمة الشعوذة والمشعوذين
باستخدام قوة عضلاته لا غير.. لماذا إذاً لا نكتب القصة؟ من غير الضروري أن تكون
من عالمنا الحالي، صحيح؟ قد تكون من الماضي.. في حقيقة الأمر، لا يجب أن تكون من
الماضي الحقيقي، الذي سيقيد القصة (ولو بالحد الأدني) بحقائق تاريخية معروفة..
علينا خلق عالم من زمن حضارة العصور الوسطى مغمور في بحر من الهمجية والبربرية، لنبعث
هرقل من جديد.. لديك "السيف والشعوذة".. لديك "البطولة
الخيالية".. تحصل مجدداً على كل أحلامك.. أو يمكنك إضافة بعض البهارات إلى
"الخلطة".. يمكنك إضافة لمسة من العلوم المتقدمة، شيء بسيط من المفارقات
التاريخية المتعمدة، وبعضاً من الفكاهة الساخرة.. الاحتمالات لا نهاية لها، والفرص
أمام الخيال الحر لا حدود لها.
إسحق
آسيموف - 1989
ترجمة:
إياد أبوعوض