الثورات في تونس ومصـر وليبيا وسورية والبحـرين واليمن... ماذا كان دور التكنولوجيا في تفجيرها؟ وكيف تمكن الثوار في تلك الدول مـن استخدام أدوات العصر للتواصل والتنظيم ونشر الأفكار بأسلوب لم يكن قابلاً للتحقيق قبل سنوات قـليلة فقط؟ والأهم من ذلك كله، هل كانت الثورات تكنولوجية أم أنها كانت لتقع حتى في حالة غياب ما توفره لنا شبكة الإنترنت اليوم؟
مشـهد جـديد أتى من شـوارع مدن عربية عدة، شـباب وشـابات يخرجون للتظـاهر مسـلحـين بكـاميرات هواتفهم المحـمولة، ليتم بعد ذلك نشـر الصور وتسجيلات الفـيديو عـلى شـبكة الإنـترنت فوراً، ومعها آخـر الأخـبار عـن الأوضاع في بلادهم... لكـن لمـاذا الآن؟ الخـبيرة في مجال دور الإنترنت في النشاط السياسي بمعهد أوكسـفورد للإنترنت مريم أوراغ تـقول إن ارتفاع مسـتويات التعـليم والإحباط بسبب غـياب فرص العـمل وتوفر إمكانيات الاتصال الإلكترونية، كلها شـكـلت مزيجـاً متفجراً؛ « في العالم العربي- الإسلامي، لدينا قسـم كـبير مـن المجـتمع تحـت عـمر الثلاثين، والكثير من هـؤلاء لديهم درجات جامعية إلا أنهم عاطلون عن العمل... الإنترنت تحول إلى جـزء مـن حياتهم اليومية »... لكن في كل حالة، كانت هـناك شـرارة أخـرجـت العملاق من قمقمه؛ في تونس كان مقـتل البوعزيزي وفي مصر مقـتل خالد سعيد، هذه الشـرارة هـي مـا دفع الآلاف للخـروج إلى الشـوارع للتعـبير عـن رفضـهم للوضع القائم ومطالبتهم بالتغـيير... الحـوار حـول هـذه التحـركات والدعوات للمشاركة فيها تمـت عـن طـريق الإنـترنت؛ سـواء باسـتخدام Facebook أو Twitter أو المدونات أو غـيرها... في تونس، دفع موت البوعزيزي المواطنين إلى تنظيم مظاهرات عـمت كافة المدن، وانتهت بفرار الرئيس زين العابدين بن علي في 14 يناير.
خـلال المظاهرات التي
عـمت المدن المصـرية، الحـكومة المصـرية أوقـفت خـدمات
الإنـترنت في جـميع أنحـاء
البـلاد... وهذه الفـتاة تسـأل: مـن يخـاف مـن تويـتر؟
في مصـر، أدى نشر تسجيلات مصورة لخالد سعيد وآثار التعذيب والضرب بادية على جـثته عن طريق موقع Youtube إلى تنظيم مظاهرات حـاشدة شهدتها مدن رئيسية يوم 25 يناير... الرد الحكومي جاء عـنيفاً ومدمراً... إلا أن المصريين واصلوا مظاهراتهم... فجـاءت محـاولات السـلطات عـزل المتظاهـرين وتجـميد سبل اتصـالهم عـن طـريق وقـف عـمل مواقع التواصل الاجـتماعي الأجـنبية والعـربية؛ حـتى وصـل الأمر إلى قطع كافة خـدمات الإنترنت والهاتف المحمول في البلاد (بما في ذلك الرسائل النصية SMS التي كانت تحـولت إلى أسلوب سريع وفعال في نقل المعلومات)... المسألة لم تكن بسـيطة؛ إذ أن مصـر هـي نقطة وصل فيما يتعلق بخطوط الإنترنت بين جـنوب شرق آسـيا وغـرب أوروبا عـن طـريق كابل ألياف بصـرية اسمه SEA-ME-WE 3 يبلغ طوله 39 ألف كيلومتر يمـتد من الهند والصين في قاع المحيط الهندي باتجاه قناة السـويس وحـتى مقاطعة كورنوال البريطانية... ومع كل هـذا، قررت حكومة القاهـرة قطع جميع الاتصالات الإلكترونية بين مصر والعـالم الخـارجي... ورغم الظلمة الإلكترونية التي أرادها نظام مبارك، فالظلمة التامة كانت مستحيلة؛ إذ أن عصر الإنترنت ووسـائل الاتصالات يوفر الإجابات دائماً، مهما كانت معقدة... وسرعان ما قام مـزودون لخدمات الإنترنت في فرنسا والسـويد وغيرهما بتوفير أرقام هاتفية مجانية يمكن للمصريين الاتصال بها للربط بالإنترنت عن طريق خطوط الهاتف الأرضية باستخدام تكنولوجيا Dialup التي تعد قديمة بعض الشيء وبطيئة للغاية؛ إلا أنها كانت وسيلة مقبولة لتبادل النصوص المكتوبة... كذلك كان هناك القـمر الصناعي الثريا 2 الموجود على ارتـفاع 35 ألف كيلومتر وهـو ما مكـّن مالك أي هاتف يعمل بتكنولوجـيا الأقمار الصناعـية من اسـتخـدامه كمودم للوصل بالإنترنت، رغم ارتفاع أسعار استعمالها لهذه الغايـة... هـذا قبل أن يبدأ البعض بإدخال لواقط أقمار صناعية خاصة بخدمات الإنترنت إلى البلاد... ثم ظهـرت خـدمات الرسائل الصوتية التي وفرتها مواقع Twitter و SayNow التابعة لـ Google ما سـمح لمسـتخدمي الهواتف الأرضية بالاتصال بأرقام معينة وترك رسـالة صوتية مسجلة ليتم نشرها على المواقع المعـنية... وهو ما ترك الباب مفتوحـاً أمام المواطنين كي يواصـلوا تنظيم تحركاتهم واسـتلام المعلومات الخاصة بتطورات الأوضاع في مناطق مختلفة من البلاد... لكن رغم انقطاع وسـائل الاتصـالات الذي أرادته الحـكومة، فعـالم ثورة المعلومات كان يسـمح للآلاف بتسـجيل الأحـداث (صور وفيديو) باسـتخدام كاميـرات هـواتفهم المحـمولة؛ ما سـمح للبعض بالاحـتفاظ بالتسـجيلات ونشـرها حالما سـنحت الفـرصـة... حـتى أن المتظاهرين في ميدان التحرير بالقاهـرة قرروا إنشـاء مركز إعلامي صـغير مكون من خـيمتين لجمع التسـجيلات التي جـاء بها زملاؤهم، ووفقاً لأحـد مسـؤولي ذلك المركز تمكن المشاركون فيه من جمع 75 غـيغابايت في السـاعات القليلة الأولى من العـمل.
أمر مشـابه يحـدث في سوريا حـتى الآن، إذ أن السـلطات تقطع كافة وسائل الاتصـال عن المدن التي تقع تحـت الحصـار وتحت وقع هـجـمات قوات الأمن والجـيش، لهذا يقوم المواطـنون باستخدام هـواتفهم لتسـجيل الوقائع ثم يقومون بنقل بطاقات الذاكرة إلى الحدود مع الأردن جـنوباً أو مع تركيا شـمالاً ليسـلموها إلى أشخـاص يقومون بنشـرها على الفور عـلى شـبكة الإنـترنت.
لكن مع إتمـام عـمليات التنظيم وإيصال المعـلومات، فإن المظـاهرات يجـب أن تـتجـدد عـلى الأرض؛ في شـوراع المـدن والبلدات التي يريد مواطـنوها تغـيير الحـاضر وصـنع المسـتقبل المشـرق الذي يتمنون قدومه... لهـذا، فالعـمل الحـقـيقي كان يـبدأ في الشـارع، بمشـاركة الآلاف وهـتافاتهـم والمطـبوعات التي كانوا يوزعـونها بين بعـضـهم وعـلى الآخـرين... مواجـهة قوات الشـرطة والجـيش لم تكـن تحـدث في عـالم افـتراضـي على شـبكة الإنـترنت، بل كـانت سـاحـتها كـل أنحـاء البلاد.
حـتى المصـطـلحات التي تم اسـتخـدامهـا من قـبل بعـض المتـظاهرين في مـصر وتونس
كـانت مرتبطة بالعـصـر الإلكتروني المعـلوماتي الذي نعـيشه؛ مـثل اسـتخدام كـلمة
Game Over التي تسـتعـمل دائـماً في الألعـاب الإلكـترونية.
والواقع الذي نشـهده اليوم هـو أنه في بعض الحـالات، كـما هـو الأمر مع نظـام القـذافي، المظاهرات السـلمية لم تؤت أكلهـا، فهي لم تجـبر العـقـيد عـلى التنحـي، حـتى أنه أراد قـتـل كافة المشـاركين فيها؛ مـا دفع المحـتجـين إلى حـمل السـلاح وبدء معـركة [انتهت بمقتله وانتصار الثورة].
الحـقـيقة أن المظاهـرات اتسـعـت وازداد عـدد المشـاركين فـيها بعـد قـطع خـدمات الإنـترنت والهـاتف المحـمول... وهـم لم يبـدأوا باحـتجـاجـاتهـم لأنهم قرروا القـيام بذلك مـن دون دافع؛ الأحـوال الاقتصادية المتردية: البطالة، تدني مسـتويات التعـليم، الخـدمات الصحـية البائـسة، الفسـاد، الظـلم... كـلها أسـباب دفعـت جـيل الشـباب إلى رفض الواقع المفروض عـليهم مـنذ عـقود... وهي التي دفعـتهم إلى مواجـهة عـناصر الشـرطة والجـيش المسـلحين... وهـذا يجـعلنا نرى بوضـوح الإجـابة عـلى السـؤال الرئيسي في هـذا المقال: هـل كـان الربيع العـربي ثورة إلكـترونية؟ الشـعـب، في كـل دولة، وليس التكـنولوجـيا هـو من صـنع الثـورة... فالمواقع الإجـتماعـية لم تكـن لتعـمل لولا المسـتخـدمين... والمسـتخدمون في هـذه الحـالة كانوا ثوارا ً غـاضـبين راغـبين في التغـيير...[إلا أن الأدوات التكنولوجية هي التي قدمت له سلاحاً قوياً مكنهم من مواصلة المواجهة، والانتصار في نهاية المطاف]... هـذا أيضـاً يجـعـلنا نتسـاءل عـن عـلاقة الحـركات التي تدعي تمثيل الدين بعـصر التكـنولوجيا... والفاصـل الزمني ليس طـويلاً عـن الوقت الذي خـرج فـيه الرجـل الذي مثـل أعـلى سـلطة في هـرم أكـبر تـلك الحـركات على شـاشات التلفزيون في برنامج حواري شهـير، ليقول إنه لا يعـرف كـيفية اسـتخـدام الإنـترنت ولا كـتابة البريد الإلكـتروني ولم يعـرف مـن كـان بيل غـيتس... فما عـلاقة هـؤلاء بعصـر مكـن الشـباب من الثـورة عـلى واقعهم رغـبة في إعـادة بلادهم إلى مقدمة صف الحـضـارة؟ ولمـاذا يسـمح لهـؤلاء بالقـفز عـلى الثـورات وإدعـاء أنهـم هـم مـن أطـلقها وهـم الذين يسـتحـقون جـني ثمارهـا؟
الأشخاص الذين أطلقوا شرارة الثورة في تونس، وبعد ذلك في مصر، كانوا من
فـئة الشباب المتعـلم الذي كان يمثل الشريحة الأكبر فـيما يتعلق بالتعامل مع
خدمات الإنترنت والتي كانت قادرة على التواصل إلكترونياً.
بالتـأكـيد، الثـورة كـانت من نـتاج العـقول المنـفـتحة عـلى مـا يجـري في العـالم؛ عـقول أدركـت أن شـعوب بلادهـا تحـيا في المـاضي بظـلامه وتعـاسـته، وأدركـت أن الدولة المدنية الحـرة التي يعيش فيها مواطـنوها كـافة بمسـاواة وعـدل، هـي الدولة التي يرغـبون في تأسـيسـها والحـياة فيها... لهـذا يـتوجـب عـلى الجـميع الحـذر مـن عـدم انزلاق بلادهم إلى فوضى التخـلف والانقسـام والمواجـهة بين أبناء الوطـن الواحـد... عـلى مـن عـمل لإسـقاط الأنظمة البائدة أن يواصل العمل كي لا تسـقط البلاد بيد أنظمة مشابهة، شـكلها فقط هو المخـتلف. [وهذا للأسف هـو ما نشهده اليوم].