لقرون من الزمن، اعتمد البشر على بعضهم البعض في الحـصول على المعلومات ونقلها من جـيل إلى آخر، وكان للذاكرة شأن كبير في هذا الأمر.. ذلك بالطبع كان قبل بدء عصر الكتب التي سـمحت بتوثيق الأحداث والوقائع.. أما اليوم، فكل شيء بات محفوظاً في سـحابة الإنترنت (The Cloud)، وأصـبح الوصـول إليه سـهلاً ومتاحـاً للجـميع.. ومع هذه الحقيقة، تضاءلت أهمية الذاكرة.
لا يمر يوم من دون أن تصلنا معلومات عن فوائد الإنترنت وما جلبته هذه الشـبكة العالمية إلينا في كل المجالات، ولا يمر يوم أيضاً يغيب فيه الحديث عن مخاطر الاسـتخدام المستمر لأجهزة الكمبيوتر المحمولة واللوحية وللهواتف الذكية، وما يجلبه ذلك من آثار سلبية علينا، من الناحية النفسـية ومن جانب ما يتركه على أدمغتنا.. لكن أين الحقيقة في كل ذلك؟
خلال الألفيات الماضية، كان البشر ينقلون فيما بينهم المعارف والمعلومات
التي يتم التوصل إليها شفوياً، وكان للذاكرة دور كبير في حفظ تلك المعلومات.
في عـام 2008 نشـر الكاتب المتخصص في مجال الكمبيوتر والمعلوماتية نيكولاس كار مقالاً في مجلة The Atlantic بعنوان "هل يجعلنا غوغل أغبياء؟" الكاتب ذكر في مقاله أن شبكة الإنترنت تقوم بتغيير أسس عمل الدماغ، فهي تجـعلنا نحـصل على كم أكبر من المعلومات لكن بشـكل سـطحي لا تعمّق فيه؛ وهي تحد من قدرتنا على التركيز في قراءة النصـوص الطويلة وتقلص من قدرتنا على الإدراك والوعي بما يحيط بنا.. كار تابع بعد ذلك كتاباته في نفس الإطـار وبتأكـيد النقاط ذاتها في مقالات مختلفة، وفي كتب منها "الضحالة" عام 2010 و"القفص الزجاجي" في العام الماضي.. كثيرون انبروا للرد على كار، خاصةً وأنه يعمم آراءه ويبنيها على دراسـات منفصـلة غطت فئات عمرية معينة وكانت محددة بظـروف فردية.. الباحث في مجال البرمجيات والكاتب المعروف ستوي بويد اعترض على طروحات نيكولاس كار بالقول إنه « يصل من فكـرة ما إلى نتائج من دون أي أدلة توضحها أو تؤكدها »؛ فمن الممكن (والمنطـقي) رؤية أن الأجـهزة الكـمبيوترية وشبكـة الإنترنت تساهم في تغـيير طريقة عمل أدمغـتنا، فهـذا أمر طبيعي شـهده الدماغ البشـري في السـابق؛ مع ظـهور الكـتاب، ثم مع ظـهور الهـاتف والتلفزيون.. لكن هذا، يؤكد بويد، لا يعـني أن الإنترنت تجـعلنا أغـبياء، بل على العـكس تمـاماً، هي تجـعلنا أكثر قدرة على التعـامل مع عـالم متعـدد الأوجـه ومختلف الألوان والاهتمامات يمكـننا من الاتصال والتحدث والتواصل مع بعـضـنا البعض بطرق جـديدة مغـايرة تماماً لما كان في السـابق، ولمـا عـهده أشـخاص مثل نيكولاس كار في الماضي ولا يتمكنون من فهمه اليوم، وفق ما ذكـره بويد.
الإنترنت، بكل ما توفره من خدمات، تعد من أعظم ما حققه الإنسان في تاريخه،
إذ أصبح ممكناً الحصول على المعلومات، والتواصل مع الآخرين، والتعلم، وحفظ البيانات
الخاصة، والعمل بسهولة تامة، وذلك عبر "نوافذ" إلكترونية باتت موجودة في كل مكان.
من المعـروف أن الإنسـان يعـمل على تنظـيم المهمات التي يجـب عليه القيام بها، وذلك بتحـديد الأوقات الملائمة لتنفيذ كل مهـمة، والحـصول على المعلومات اللازمة لهذا الأمر، واخـتيار المكان المناسب لعـملية التنفـيذ.. ما قدمتـه لـنا التكنولوجيا هـو إمكانية تحـقيق كل خـطوات التنظـيم المذكـورة بالاعـتماد على أدوات الإنترنت والبرمجـيات المتوفرة في كل هاتف ذكي أو كمبيوتر لوحي: حـفظ موعد مناسبة معينة وتحـديد منبه لتذكيرنا بذلك الموعد عند حلوله.. حفظ أرقام الهواتف وعناوين البريد الإلكتروني وغيرها حتى يمكننا الاتصال والتواصل مع شخص ما، من دون الاعتماد على ذاكرتنا الدماغية.. الرجوع لصـفحات متخصصة على شـبكة الإنترنت للحصـول على معلومات تتعلق بشـركة معـينة مثلاً والاطـلاع على مدى جـديتها قبل الدخول في مشـاريع مشـتركة معها.. جـمع معلومات عن ملف معين مطـلوب لبحث مدرسي أو جـامعي من دون إضاعة وقت طويل في العودة إلى عدد كبير من الكتب.. كل هذه الأمور قمنا بنقل المسـؤولية عنـها من ذاكـرتنا وجـهدنا الشـخصي الخـاص إلى أجـهزتـنا الإلكـترونـية وإلى تلك الأدوات المتوفرة في الويب.. وقد تجاوزنا هذه المرحلة لنصل إلى الاعـتماد على سـحابة الإنترنت التي تسمى The Cloud لحـفظ صـورنا وصـور عن وثائقنا الخـاصة وتلك المرتبطة بالعمل، حـتى من دون الاطلاع عليها أو دراسـتها بشـكل معـمق؛ فالكثيرون يعتقدون أنهم سيعودون لرؤية تلك الصور فيما بعد أو لقراءة الوثائق والمقالات في أوقات أخرى، ربما لا تأتي أبداً.
بعض الباحثين، مثل الراحل دانييل ويغنر الذي كان أستاذ علم النفس في جامعة هارفارد وتلميذه آدريان وارد، يصفون الإنترنت بأنه تحـول بصورة أو بأخرى إلى صديق عالم بكل شيء، ليس فقط بما يخصك أنت شخصياً، بل أيضاً كل شيء عن العلوم والتاريخ والطب والأديان والهندسة والجغرافيا و... إلخ.
باستخدام هاتف ذكي أو كمبيوتر لوحي، يمكنك الحصول على أي معلومة
والتواصل مع أي شخص في أي مكان على وجه الأرض.
بالرغم من كل ما سبق، هناك من يرى أن الإنترنت والوسـائط التكنولوجية بشكل عام أعـادت تشـكيل طريقة عمل أدمغـتنا وتسـببت بظـهور عـوامل جـديدة لم نعهدها سابقاً.. صحـيفة نيويورك تايمز وصفت أحـد تلك العوامل بالقلق المرضي الممزوج بالخـوف، وذلك نتيجة للترقب المسـتمر لما ستجلبه لنا وسـائل التواصل الاجتماعي وما قد يتبع ذلك من حـاجة إلى التأهـب الدائـم للرد والعودة للحالة السابقة انتظـاراً لرد جديد.. وهذا القلق من غـير الممكن التحـكم فيه حتى في الإجازات والعـطل، إذ إن هاتفك الذكي وكمبيوترك دائماً إلى جوارك وأنت دائماً في حـالة ترقب وانتظار.
الخدمات التي تتوفر عبر الإنترنت، مثل الخرائط وبرمجيات تحديد المواقع،
ألغت بشكل كبير إمكانية اللجوء إلى أشخاص آخرين طلباً للمساعدة أو لمعرفة
طريقة الوصول إلى مكان ما، بما يصحب ذلك من تقلص في خبراتالاحتكاك
الاجتماعي والتواصل مع الآخرين في المجتمع.
قضـية أخرى عادت إلى الواجـهة مؤخراً تخص العلاقة بين الأجـهزة الإلكترونية ومشـكلات النوم؛ فالتحـول من قراءة الكتب الورقية (أو تلك الخاصة بأجهزة الحبر الإلكتروني) إلى الكمبيوترات اللوحية ذات الشـاشات المضـيئة (مثل الآيباد) يؤدي إلى التسبب بالأرق أو بعدم الوصـول إلى حالة النوم العميق التي تعرف بـ SWS.. هذه كانت نتائج بحث قام به فريق من الباحـثين من كلية الطـب في جامعة هـارفارد ونشـرت نهاية العام الماضي في مقال بمجلة "بروسيدنغز" الصادرة عن الأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة.. الدراسة وجدت أن القراءة أو استخدام الكمبيوتر اللوحي أو الهاتف الذكي لمشـاهدة فيديو أو تفقد بريدك الإلكتروني قبل الخلود إلى النوم، يتسبب في اضطرابات مرتبطة بالنوم والشعور بالإرهاق وقت الاستيقاظ في اليوم التالي، لأن الضوء الأزرق، وهو ما يعد طول الموجة الأكثر انتشاراً في الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر اللوحية، قد يؤدي إلى إضطراب السـاعـة البيـولوجـية لكـلٍ مـنا.
إمكانية التواصل والقراءة في أي مكان حولت أوقات استخدام وسائل النقل العامة
إلى فترات يمكن أن تكون منتجة، بدلاً مما عهدناه في السابق؛ عندما كانت مجرد
أوقات تضيع في انتظار الوصول من نقطة ما إلى أخرى.
بالطبع، من البديهي الحديث أيضاً عن الضعف في قوة الذاكرة لدينا بسبب الاعتماد الكبير على تخزين الأرقام والمعلومات والتواريخ في أجهزتنا وحفظها في صفحاتنا الخاصة على الإنترنت، هذا من دون ذكر أن مواقع التواصل الاجتماعي خلقت حالة من عدم التركيز المطول، وذلك بسبب كثرة المعلومات الواردة وعدم القدرة على استيعاب كل ما تحمله بشكل كامل في الوقت القصير المتوفر.. لكن ليس كل شيء سـيئاً، إذ إن الاستخدام الدائم للإنترنـت وللشاشات المضيئة يتسبب بتقوية القدرات البصرية لدينا ويجعل قدرتنا على اتخاذ القرارات السريعة أكثر دقة اعتماداً على العوامل التي نشاهدها حولنا.. بعد كل هذا، من الضروري القول إن التكنولوجيا سمحت لنا بتطوير مهاراتنا الفنية ومكنت المـوهوبين من تطوير ملكاتهم ومن الاستفادة من خبرات فنانين آخرين بحيث يكون عمل الجميع جميلاً ومبدعاً ومتفرداً.
No comments:
Post a Comment