لمـاذا يـتصرف الإنسان في بعض الأحيان بصورة فاضلة وأخلاقـية وفي حالات آخـرى يكون قادراً عـلى ارتكاب أفظع الجرائم؟ سؤال حاولت المدارس الفكرية والدينية الإجابة عنه منذ بدء التاريخ.
قصة المهندس النمساوي جوزيف فريتزل الذي قام باحتجاز ابنته واغـتصابها لما يقارب الربع قرن في قبو منزله، أو قصة السيدة الأمريكية تشاينا أرنولد التي قامت بقتل طفلتها الرضيعة بوضعها في فرن المايكرويف، وقصص الحروب والتعذيب التي تغطي كافة أرجاء الأرض... أمام كل هذه القصص، تتبادر إلى الذهن أسئلة في غاية الأهمية: ما هو الشر؟ لماذا هو موجود؟ هل الإنسان شرير الى هذا الحد؟ ولماذا؟
الإجابات مختلفة، لكنها ليست مقنعة دائماً... بعض الفلاسفة، كسقراط ، يرون أن الشر هو مجرد الجهل وعدم القدرة على فهم ماهـية الخير... أما بالنسبة لآخرين كهيغل، فالشر هو الوجه الآخر للخير، وجه لا مفر منه ولا بديل عنه... أديان كثيرة، على الجانب الآخر، تتحدث عن الشر المطلق الذي هو فوق العالم الطبيعـي الذي نعرفه: إنه الشيطان... إلا أن رجال الدين يتحدثون عن الإله العادل والرحيم واللطيف، لكنهم يختلفون عندما يتم التوجه إليهم بالسؤال: لماذا يوجد هذا الشيطان؟ لماذا لم يترك الإله الكون خيراً بالمطلق؟ الفيلسوف الإغريقي أبيقور Epicurus (324-270 قبل الميلاد) قام بوضع معضلة لا تزال قائمة حتى الآن حول هذا الشأن: «الرب، إما أن يكون راغباً في إزالة الشر لكنه لا يستطيع، أو أنه يستطيع لكنه لا يريد، أو أنه لا يريد ولا يستطيع... إذا كان يريد ولا يستطيع، فهو عاجز؛ إلا أن هذا ليس من مواصفات الرب... وإذا كان يستطيع ولا يريد فهو ليـس خـيّراً؛ وهـذا عـكـس مواصـفات الرب تماماً... إذا كان لا يريـد ولا يستطيع، فهو عاجز وليس خيراً، أي أنه ليس إله على الإطلاق... أما إذا كان يريد ويستطيع، فلماذا الشر موجود إذاً؟».
تعريف الشر المتوافق عليه بين الجميع هو أنه نقيض الخير؛ أي أنه كل ما لا يرغبه أحد... أما البحث عما هو أكثر دقةً من هـذا فسيدخلنـا في خلافات معقـدة... لماذا؟ فلنأخذ مثال القتل: فمع أننا جميعاً نعتبره تمثيلاً فعلياً للشر؛ إلا أنه كان ضرورياً لوضع حد لطموحات هـتـلر المجنونـة مثلاً... كذلك فالعديد من الأديان تعتبر القتل الناتج عـن الحروب سبيلا ً لنشر الخير (كالجهاد في الدين الإسلامي، والحروب الصليبية في الدين المسيحي وغيرها).
يعيشان معاً: الخير والشر المجسدان في شخصيتين مختلفتين (دكتور جيكل ومستر هايد)
يعيشان في شخص واحد... هكذا وصف روبرت لويس ستيفنسون النزاع الأخلاقي.
اليوم، علماء الاجتماع والنفس والإيثولوجيا (أو السلوك الحيواني) والتطور البيولوجي يعملـون عـلى دراسة الشـر بصورة أكثر واقعية من دون أن يتوقعوا الوصول الى تعريف كلي شامل... بل من أجل التوصل إلى سبب وجوده... الطب تمكن من إخبارنا أن أشكالا ً عديدة من التصرفات العنيفة مـن الممكن عزوها إلى حالات مرضية نفسية... عالم الإيثولوجيا النمساوي إيبل آيبيسفيلدت Eibl Eibesfeldt من معهـد ماكس بلانك ومؤسس الفرع العلمي "الإيثولوجيا البشرية" يرى الخير والشر، الإيثار والأنانية كتصرفات غريزية في الإنسان كانت نتاجاً للتطور البيولوجي خلال ملايين السنين: وهو صراع مستمر بين غـريزة التملك والدفاع عن المجال الحيوي (Territory) لذلك الإنسان من جانب وبين غريزة التعاون مع الآخرين من جانب آخر.
لماذا يوجد الإيثار؟
يقول البروفيسور ستيفان هارناد Stevan Harnad الباحث في جامعـة كيبك بمونتريال: «لكي يكون الإيثار موجوداً، يجب أن تكون الحاجات الأساسية للإنسان (كالماء والطعام والمسكن والجنس) مشبعة»... لهذا فالأفراد في مجتمعات الدول الأوروبية الشمالية، حيث هناك توزيع عادل للثروة وهناك ظروف رفاهية أفضل، لا يعانون من الظلم وهناك شر أقل... في حين أنه في الدول التي تشح فيها المصادر والثروات وتزيد فيها الكثافة السكانية، يكون فيها ظلم أكثر وجرائم أكثر وانعدام للمساواة... ووفقاً لما كتبه تشارلـز داروين عام 1851: «القبيلة المكونة من عدة أفراد مستعدين لتقديم العون لبعضهم البعض بشكل متبادل والتضحـية بأنفسهم من أجل المصلحة العامة، ستكون منتصرة على بقية القبائل»... إذاً فإن عملية الإختيار الطبيعي Natural Selection تفضل بقاء واستمرارية كل عضو من تلك القبيلة (وسلالته) على أفراد آخرين قرروا العيش بشكل منفرد.
وجهات نظر
هل من الممكن القـول إن الشر مسألة نسبية؟ من يرتكب أعمالاً شريرة قد يؤمن بأن ما يقوم به هو الخير بعينه... البعض قد يرفض هذه الفكرة؛ لكن إذا أخذنا عدداً من الأمثلة حول هذا الموضوع، ستتضح صحته: عندما وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وصم الغرب ما حدث بأنه عمل ناتج عن شر مطلق... إلا أن المسؤولين عن تلك الجريمة، آمنوا أنهم يقومون بعمل سامٍ سيوصلهم الى الجنة... وما قامت به الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، يعتقد الغرب بأنه يجلب الخير لمواطني تلك الدول ولمواطني العالم... إلا أن آخرين يرون ما حدث في سجن أبو غريب وعمليات القتل والاختطاف والفلتان الأمني كلها نتاج للشر المطلق.
في بعض الأحيان، حتى الشخص نفسه أو المجموعة ذاتها التي قامت بارتكاب شر ما، تعود بعد ذلك لتتساءل عن المنطق الذي جعلها ترتكبه معتقدة أنه كان خيراً وقت ارتكابه.
معـتـقـدات عن الشـر
يقـول الدكتور روي بوميستر Roy Baumeister أستاذ علم النفس في جامعة فلوريدا : «مـا يـتوجـب عـليـنا معـرفـته أولاً هـو أننـا جـميعـاً قـادريـن عـلى ارتـكـاب أمـور قـد يـراهـا آخـرون شـريرة، وحـشـية، و عـنيـفة... فهـذا يعـتـمد عـلى الظـروف المحـيطة التـي تسـمح لـنا بتـفـسير الأحـداث».
هـناك أمـور كـثـيرة يسـود اعـتـقاد بصحـتها في حين أنها غير صحيحة... وهذا عدد منها :
1- ليس صحيحاً أن مـن يرتكب أموراً شريرة يفعل ذلك دائماً برغبته وبصورة متعمدة... ربما يبدو الأمر هكذا بالنسبة للضحية... أما بالنسبة للمتسبب بالشر، فهـناك دائماً عـذر مقـبول ومبرر منطـقياً وفق اعتقاده.
2- ليس صحيحاً أن هـناك من يرتكب أموراً شريرة لمجرد شعـوره بمتعة ارتكابها... فهناك دائماً سبب يدعوه لذلك ليس هـو حب الشر بحد ذاته (باستثناء الحالات المرضية بالطبع).
3- ضحية الشـر ليست دائماً بريئة وخيـّرة... ففـي حالات كثيرة، الضحية ترتكب أموراً تؤدي بالطرف الآخر الى ردة فعـل "شـريرة"؛ وتجعله مقتنعاً تماماً بأن ما يقوم به له ما يبرره.
4- الشـر ليس حكراً عـلى الإنسان كـما تدعي بعض المعـتقـدات؛ فهو موجود في المملكة الحيوانية أيضاً.
لمـاذا الشـر؟
لا يوجد أي شخص يرى نفـسه شريراً عـلى الإطلاق... كل من يرتكب شروراً (من وجهـة نظرك) يقوم بها لوجود أسباب مشروعة ومنطقية (من وجهة نظره)... وفقاً لرؤية أستاذ عـلم النفـس في جامعـة ستانفورد ألبرت باندورا Albert Bandura، ربما يكون السبب هو أن القواعـد الأخلاقـية لدى الإنسان ليست ثابتة وعميقة في داخله كما نعـتقـد؛ يعود هذا الأمر على الأغلب الى أنه في الماضي اضطر لارتكاب أعمال مريعة في صراعه من أجل البقاء على قيد الحياة؛ متجاهلاً تلك القواعد.
مـن جانـب آخر، ومن أجل البقاء أيضاً، فقد كان ضرورياً إظهار العدو بمواصفات الشريـر وذلك لتحريـك المشاعر المزروعة داخلنا والتي ترغب بشدة في أن نكون خيـّرين حتى عندمـا نـتوجه الى الحرب لقتل الآخرين... ولإظهار العدو بتلك الصورة، فهـناك حاجة إلى آلة دعائية تحرك مشاعـر أفراد القبيلة، المدينة، أو الدولة.
في حقـيقة الأمر، قد تكون هذه الروايات المختلفة حول أصل الشر ومنبعه الرئيسي مجرد أسلوب ابتدعه الإنسان مع بدء تاريخه ليرمي مسؤولية أفعاله (التي لا يرضى ضميره عنها عندما ينظر إلى مرآة نفسه) على قوةٍ سُفـليةٍ سماها الشيطان أو العفاريت أو وساوس العالم الآخر... لكـن مـا يتوجب على الإنسان فعله هو البدء بتحمل نتائج أفعاله بنفسه و النظر إلى الآخـرين كأفراد مماثلين له، مهما اختلفت أفكارهم ومعتقداتهم وتاريخهم ولغتهم.
بالرغم من طول المدة التي استغرقها البحث في ماهية الشر، فالإجابة النهائية لا زالت بعيدة.
- الفـيلسوف الإغريقي سقراط (470-399 قبل الميلاد) كان يؤكد أن الإنسان هو عبارة عما تمثله روحه؛ أي ما يمثله منطقه ووعيه؛ لهذا فلا داعي لهذا اللهاث المتواصل والمتشنج وراء المتع والثروات... كل هذه مسارات مزيفة... الخير يمكن الوصـول إليه عـن طريق العناية بالروح... والمعرفة وحدهـا قادرة عـلى جعل الروح وفق طبيعتها الأساسية الخيـّرة والكاملة... ومن هذا التفسير، قدم سقراط الوعي والمعـرفة على أنهما فضيلة في حين أن الجهل رذيلة... فمن يقـترف أموراً شريرة، يقوم بذلك لأنه في حقيقة الأمر يتجاهل الخير؛ لهذا هو ضحية الجهل.
- كونفوشيوس أو Master Kung (ولد في الصين عام 551 قبل الميلاد) قدم الأمور بنفس أسلوب سقـراط تقريباً... فقد ساند فكرة أن الإنسان خيّر بطبعه وأن الشر ينتج عـن الجهل.
- الكـتب المقـدسـة تقدم النظام الأخلاقي على أنه قادم من الرب... لهذا فالخير وفقاً لهذه النظرة تحول إلى طاعة الأوامر الإلهية... أما الشر فهو ارتكاب الآثام؛ أي مخالفة التعاليم الدينية.
- الأديان حوّلت التفكير في العالم الى جزئين، فبـدلاً مـن البحث في الخير والشر ومصدرهما ونتائجهما هنا في عالمنا هذا، تحول التفكـير الى ما هو موجود في هذه الحياة وما سيترتب عليه في الحياة التالية... فالخير ستتم مجازاته بموقع أبدي (لا زماني ولا مكاني) هو الجنة، في حين أن الشر ستتم معاقبته بموقع مضاد للجنة في مواصفاتها؛ جهنم.
- الفـلسفة الحديثـة بحثت أيضاً في معنى الخير والشر بعيداً عن الفكر الإغريقي القـديم وعـن الفكر الديني الذي عملت على نشره المفاهيم اليهودية-المسيحية-الإسلامية... فالمدرسة الفلسفية النفعية (أو Utilitarianism) ابتداء بجيريمي بينثام (1748-1832) وحتى هنري سيدجويك (1838-1900) تقول إن عملاً ما يكون خيـّراً اعتماداً على مقدار إسهامه في النفع العام وبقدر ما يجلب من سعادة لأكبر عدد من الناس.
- الفـلسفة المثالية (Idealism) تجد للشر تبريرات خاصة به... هيجيل (1770-1831) يرى أن الـشر ضروري ولا بديل عنه فيما يتعلق بوجود الخير... فلو كان الخير وحده موجوداً، فما الذي سيتوجب عليه مواجهته والانتصار عليه؟ لذا يجب أن يكون الشر موجوداً... وإلا، ببساطة، ستكون كل صفحات الكتب عبارة عن أوراق بيضاء.
No comments:
Post a Comment