Sunday, June 28, 2020

في انتظار رسالتها


قبل شبكة الإنترنت وأساليب التواصل عبر الأجهزة المحمولة، قبل وتساب وسكايب وفيسبوك وإنستغرام، قبل عالم الصور، الذي تحول إلى شأن لا قيمة له، عاطفية كانت أو حتى تقنية، قبل كل ذلك، كانت الأحاديث عن بعد، سواءً تلك الخاصة بالأعمال أو بالأمور الشخصية، أو حتى التي تتعلق بخطابات العشاق والمحبين، تتم عبر الرسائل المكتوبة بخط اليد.. نعم، البريد كان كل شيء، كان ملك العالم وسيد الجميع.
بطل حكايتنا كان شاباً في مقتبل العمر يعيش في بلدة هادئة بعيدة عن ضجيج المدن وصخب الحياة.. يذهب كل يوم إلى مكتب البريد، حيث صندوق عائلته، ليفتحه وينظر بداخله، آملاً في العثور على رسالة تحمل آخر أخبار حبيبته، وربما يحتوي مغلفها أيضاً على صور لها، أو بطاقة بريدية لمدينتها البعيدة.. رحلة بدأت أسبوعية، ثم تحولت إلى ضرورة كل يومين وربما كل يوم، فالتوق إلى قراءة صفحة أرسلتها بات الهدف الذي يفتح معه عينيه كل صباح، بات السبب كل ليلة في انتظار اليوم التالي.
في كل مرةٍ كان يفتح صندوقه البريدي ليجد شيئاً ما فيه، كانت عيناه تتوسعان فرحةً ﻭﺩﻗﺎﺕ ﻗﻠﺒﻪ ﺗﺘﺴﺎﺭﻉ، فهو يرى ضوءاً ينير الصندوق كله، بل جميع الصناديق، وحتى مكتب البريد بكل من فيه، هو وحده كان يرى ذلك النور، هو وحده كانت تغمره سعادة لا توصف، فيغلق الصندوق ويغادر على عجل نحو بيته وغرفته، يغلق الباب ويبدأ في قراءة الرسالة، التي كتبتها بيدها.. يعيد قراءة كل جملة، مراتٍ ومرات.. يتفحص خطها في كل كلمة، يقرأ ما كتبته وكأنه يتعبد في محرابه الديني الخاص.. أثناء القراءة، يبدو وكأنه في جلسة تأمل عميقة، لا يشعر بشيء خارج حدود غرفته.. لا يسمع، ولا يرى.. فهو يتحدث إليها، يسألها فتجيبه، يخاطبها فترد عليه، يلمس يدها ويستمع إلى صوتها.. يواصل القراءة بابتسامة دائمة.. ويعيد التجربة مئات المرات، قبل أن تصل اللحظة، التي يقرر معها البدء في كتابة رسالته إليها.. ويبدأ مشوار التفكير لاختيار صورة جديدة يضمها إلى الرسالة.
لكن المشهد لم يكن وردياً دائماً.. ففي مرات عديدة، كان يفتح الصندوق ويحدق فيه طويلاً.. لم يصله شيء.. خلال اللحظات، التي تمر بطيئة في النظر إلى تلك العلبة المعدنية الفارغة، تدور في رأسه مئات الأسئلة؛ أين رسالتها؟ لم أستلم شيئاً منذ أسبوع، هل أضاع موظفو البريد هنا أو في مدينتها أو حتى خلال رحلة النقل الرسالة؟ أو ربما أكون قد كتبت شيئاً أغضبها مني في رسالتي الأخيرة، فلم ترغب في الكتابة لي مجدداً.. يغلق الصندوق بحركة ملؤها الحزن وخيبة الأمل، فيما يتنقل نظره من زاوية في المكان إلى زاوية أخرى، فيقنع نفسه بأن الغد سيكون مختلفاً، ستأتي الرسالة ويشعر مجدداً بالسعادة.. فيحيا بأملٍ يشجعه على انتظار اليوم التالي.
هذا الصباح، وجد الرسالة.. لم تكن كسابقاتها، لم تكن هناك صفحات كثيرة، ولم تضم أي صورة لها.. فيها جملة واحدة: "أنا قادمة لزيارتك منتصف الشهر القادم.. انتظرني!"
تسألون: كيف تعارف الحبيبان قبل هذه المرحلة، ولماذا بات البريد هو وسيلة التواصل بينهما؟ هذا حديث ليوم آخر.


في الطائرة.. ذكريات الماضي


جلس في مقعده بالطائرة بانتظار الإقلاع.. ربط حزام الأمان.. فيما أخذ يحدق عبر النافذة الصغيرة بجانبه.. يراقب من دون تفكير المركبات التي تتحرك حول الطائرة، العمال الذي ينقلون الأمتعة، والحافلات التي تقل مسافرين إلى طائرات أخرى.. انعكاس ضوء الشمس من على نافذة إحدى تلك الحافلات مباشرة في عينيه أطلق تفكيره نحو الماضي، ليسترجع مشاهد وحوارات وأفكاراً ظن طويلاً أنها لم تُحفظ في ذاكرته.. تذكر ابتسامتها في المرة الأولى التي التقاها فيها.. نظرتها إليه، التي ومن دون أي كلمة، كانت تقول: "أحبك".. دفءٌ جارف اجتاح جسده، عندما استعاد تلك الصورة في مخيلته، بات يراها أمامه بأدق تفاصيل وجهها وملامحها.. بات يرى ويشعر بكل التفاصيل التي أحاطت بتلك اللحظة؛ الأصوات والحركات والأشخاص، الذين كانوا في خلفية المشهد، وعطرها الذي لن ينساه ما حيي، أدرك أنه لم يتوقف أبداً عن حبه لها، وأنه لم يتمكن في يوم ما بعد ذلك من أن يحمل مشاعر مماثلة تجاه أي امرأة أخرى منذ افترق عنها.
يخرج هاتفه من جيبه، ويبحث عن آخر رسالة كتبها إليها.. كانت رسالة عادية، يسأل فيها عن أحوالها، يتمنى لها عاماً سعيداً قادماً.. لكنه يعرف أنه لم يكتب تلك الرسالة لذلك السبب، هو يعرف أنه أراد سؤالها عن شيء آخر تماماً: "هل أخطأنا في خيارنا؟ هل كان علينا التفكير أكثر قبل اتخاذ قرارنا؟" لكن كبرياءه منعه من الوصول إلى تلك النقطة في رسالته.. لم يرد أن يخطو هو الخطوة الأولى، فماذا لو قالت: "لا لم نخطئ"؟
يعود بنظره إلى النافذة، ويراقب فيما تبدأ الطائرة تحركها ببطء نحو مدرج الإقلاع.. ليعود إلى ذكرياته، حينما قالت له إن المشكلات تزداد من دون أسباب حقيقية، وإن ظروف الحياة تتسبب في شجارات لا معنى لها بينهما، وإن من غير المعقول أن تؤثر على علاقتهما إلى هذا الحد، لكنه لم يرَ الأمور على حقيقتها، كان يعتقد أن الحياة بينهما أصبحت مستحيلة، وأنه من دونها سيعود إلى الحرية وسيجد السعادة في قصة حب أخرى، حب حقيقي يدوم ولا تؤثر فيه هموم الحياة.. لم يكن يعرف أن السعادة كانت هي، وجودها معه، إلى جانبه.. لم يكن يعلم..
سنوات عديدة مرت، بعد لقائهما الأخير، لم يجرؤ خلالها على طلب لقاء جديد، ربما لإداركه أنه سيضعف أمامها وسيعترف بخطئه.. هو على ثقة من أنه قوي جداً، وأن إرادته صلبة إلى أبعد الحدود، لكن ليس معها.. ربما كان هذا دليل حبه لها بالرغم من كل شيء، ربما كان هذا السبيل إلى معرفة أن حياته من دونها فارغة.. لو كان أزال الغمامة التي سوّدت أفق بصيرته طوال هذا الوقت، لكان أدرك أنه لا يريد من حياته سوى العودة إلى تلك اللحظة الأولى التي التقاها بها، ليقول لها إنه لن يفارقها أبداً.
يخرج من أفكاره وذكرياته، ليشهد إقلاع الطائرة، ويراها ترتفع عن الأرض متوجهة نحو السماء.


معضلة الزمن.. التكنولوجيا كمعيار لمرور السنين في أعمارنا

إنه بالفعل أمر مثير للدهشة وفي الوقت ذاته مربك إلى حد كبير؛ أن ندرك أن بعض الناس الذين نعرفهم ونتعامل معهم اليوم ليست لديهم أي معرفة بالمعال...