قبل شبكة الإنترنت وأساليب التواصل عبر الأجهزة
المحمولة، قبل وتساب وسكايب وفيسبوك وإنستغرام، قبل عالم الصور، الذي تحول إلى شأن
لا قيمة له، عاطفية كانت أو حتى تقنية، قبل كل ذلك، كانت الأحاديث عن بعد، سواءً
تلك الخاصة بالأعمال أو بالأمور الشخصية، أو حتى التي تتعلق بخطابات العشاق
والمحبين، تتم عبر الرسائل المكتوبة بخط اليد.. نعم، البريد كان كل شيء، كان ملك
العالم وسيد الجميع.
بطل حكايتنا كان شاباً في مقتبل العمر يعيش في بلدة هادئة بعيدة عن
ضجيج المدن وصخب الحياة.. يذهب كل يوم إلى مكتب
البريد، حيث صندوق عائلته، ليفتحه وينظر بداخله، آملاً في العثور على رسالة تحمل
آخر أخبار حبيبته، وربما يحتوي مغلفها أيضاً على صور لها، أو بطاقة بريدية
لمدينتها البعيدة.. رحلة بدأت أسبوعية، ثم تحولت إلى ضرورة كل يومين وربما كل يوم،
فالتوق إلى قراءة صفحة أرسلتها بات الهدف الذي يفتح معه عينيه كل صباح، بات السبب
كل ليلة في انتظار اليوم التالي.
في كل مرةٍ كان يفتح صندوقه البريدي ليجد شيئاً ما
فيه، كانت عيناه تتوسعان فرحةً ﻭﺩﻗﺎﺕ ﻗﻠﺒﻪ ﺗﺘﺴﺎﺭﻉ، فهو يرى ضوءاً ينير الصندوق
كله، بل جميع الصناديق، وحتى مكتب البريد بكل من فيه، هو وحده كان يرى ذلك النور،
هو وحده كانت تغمره سعادة لا توصف، فيغلق الصندوق ويغادر على عجل نحو بيته وغرفته،
يغلق الباب ويبدأ في قراءة الرسالة، التي كتبتها بيدها.. يعيد قراءة كل جملة،
مراتٍ ومرات.. يتفحص خطها في كل كلمة، يقرأ ما كتبته وكأنه يتعبد في محرابه الديني
الخاص.. أثناء القراءة، يبدو وكأنه في جلسة تأمل عميقة، لا يشعر بشيء خارج حدود
غرفته.. لا يسمع، ولا يرى.. فهو يتحدث إليها، يسألها فتجيبه، يخاطبها فترد عليه،
يلمس يدها ويستمع إلى صوتها.. يواصل القراءة بابتسامة دائمة.. ويعيد التجربة مئات
المرات، قبل أن تصل اللحظة، التي يقرر معها البدء في كتابة رسالته إليها.. ويبدأ
مشوار التفكير لاختيار صورة جديدة يضمها إلى الرسالة.
لكن المشهد لم يكن وردياً دائماً.. ففي مرات عديدة،
كان يفتح الصندوق ويحدق فيه طويلاً.. لم يصله شيء.. خلال اللحظات، التي تمر بطيئة
في النظر إلى تلك العلبة المعدنية الفارغة، تدور في رأسه مئات الأسئلة؛ أين
رسالتها؟ لم أستلم شيئاً منذ أسبوع، هل أضاع موظفو البريد هنا أو في مدينتها أو
حتى خلال رحلة النقل الرسالة؟ أو ربما أكون قد كتبت شيئاً أغضبها مني في رسالتي
الأخيرة، فلم ترغب في الكتابة لي مجدداً.. يغلق الصندوق بحركة ملؤها الحزن وخيبة
الأمل، فيما يتنقل نظره من زاوية في المكان إلى زاوية أخرى، فيقنع نفسه بأن الغد
سيكون مختلفاً، ستأتي الرسالة ويشعر مجدداً بالسعادة.. فيحيا بأملٍ يشجعه على
انتظار اليوم التالي.
هذا الصباح، وجد الرسالة.. لم تكن كسابقاتها، لم تكن
هناك صفحات كثيرة، ولم تضم أي صورة لها.. فيها جملة واحدة: "أنا قادمة
لزيارتك منتصف الشهر القادم.. انتظرني!"
تسألون: كيف تعارف الحبيبان قبل هذه المرحلة، ولماذا
بات البريد هو وسيلة التواصل بينهما؟ هذا حديث ليوم آخر.