Sunday, June 28, 2020

في الطائرة.. ذكريات الماضي


جلس في مقعده بالطائرة بانتظار الإقلاع.. ربط حزام الأمان.. فيما أخذ يحدق عبر النافذة الصغيرة بجانبه.. يراقب من دون تفكير المركبات التي تتحرك حول الطائرة، العمال الذي ينقلون الأمتعة، والحافلات التي تقل مسافرين إلى طائرات أخرى.. انعكاس ضوء الشمس من على نافذة إحدى تلك الحافلات مباشرة في عينيه أطلق تفكيره نحو الماضي، ليسترجع مشاهد وحوارات وأفكاراً ظن طويلاً أنها لم تُحفظ في ذاكرته.. تذكر ابتسامتها في المرة الأولى التي التقاها فيها.. نظرتها إليه، التي ومن دون أي كلمة، كانت تقول: "أحبك".. دفءٌ جارف اجتاح جسده، عندما استعاد تلك الصورة في مخيلته، بات يراها أمامه بأدق تفاصيل وجهها وملامحها.. بات يرى ويشعر بكل التفاصيل التي أحاطت بتلك اللحظة؛ الأصوات والحركات والأشخاص، الذين كانوا في خلفية المشهد، وعطرها الذي لن ينساه ما حيي، أدرك أنه لم يتوقف أبداً عن حبه لها، وأنه لم يتمكن في يوم ما بعد ذلك من أن يحمل مشاعر مماثلة تجاه أي امرأة أخرى منذ افترق عنها.
يخرج هاتفه من جيبه، ويبحث عن آخر رسالة كتبها إليها.. كانت رسالة عادية، يسأل فيها عن أحوالها، يتمنى لها عاماً سعيداً قادماً.. لكنه يعرف أنه لم يكتب تلك الرسالة لذلك السبب، هو يعرف أنه أراد سؤالها عن شيء آخر تماماً: "هل أخطأنا في خيارنا؟ هل كان علينا التفكير أكثر قبل اتخاذ قرارنا؟" لكن كبرياءه منعه من الوصول إلى تلك النقطة في رسالته.. لم يرد أن يخطو هو الخطوة الأولى، فماذا لو قالت: "لا لم نخطئ"؟
يعود بنظره إلى النافذة، ويراقب فيما تبدأ الطائرة تحركها ببطء نحو مدرج الإقلاع.. ليعود إلى ذكرياته، حينما قالت له إن المشكلات تزداد من دون أسباب حقيقية، وإن ظروف الحياة تتسبب في شجارات لا معنى لها بينهما، وإن من غير المعقول أن تؤثر على علاقتهما إلى هذا الحد، لكنه لم يرَ الأمور على حقيقتها، كان يعتقد أن الحياة بينهما أصبحت مستحيلة، وأنه من دونها سيعود إلى الحرية وسيجد السعادة في قصة حب أخرى، حب حقيقي يدوم ولا تؤثر فيه هموم الحياة.. لم يكن يعرف أن السعادة كانت هي، وجودها معه، إلى جانبه.. لم يكن يعلم..
سنوات عديدة مرت، بعد لقائهما الأخير، لم يجرؤ خلالها على طلب لقاء جديد، ربما لإداركه أنه سيضعف أمامها وسيعترف بخطئه.. هو على ثقة من أنه قوي جداً، وأن إرادته صلبة إلى أبعد الحدود، لكن ليس معها.. ربما كان هذا دليل حبه لها بالرغم من كل شيء، ربما كان هذا السبيل إلى معرفة أن حياته من دونها فارغة.. لو كان أزال الغمامة التي سوّدت أفق بصيرته طوال هذا الوقت، لكان أدرك أنه لا يريد من حياته سوى العودة إلى تلك اللحظة الأولى التي التقاها بها، ليقول لها إنه لن يفارقها أبداً.
يخرج من أفكاره وذكرياته، ليشهد إقلاع الطائرة، ويراها ترتفع عن الأرض متوجهة نحو السماء.


No comments:

Post a Comment

معضلة الزمن.. التكنولوجيا كمعيار لمرور السنين في أعمارنا

إنه بالفعل أمر مثير للدهشة وفي الوقت ذاته مربك إلى حد كبير؛ أن ندرك أن بعض الناس الذين نعرفهم ونتعامل معهم اليوم ليست لديهم أي معرفة بالمعال...