النوستالجيا، أو ما يعرف بالعربية بـ"التوق إلى الماضي"، هي حالة
يمكن تعريفها بأنها شعور دافئ بالحنين إلى ما هو مرتبط بذكريات الماضي، وفي أغلب
الحالات، يكون هذا التوق مشوباً بالحزن، لأننا جميعاً نتذكر الظروف والتجارب التي
مرت بنا عندما كنا أصغر سناً، أكثر شباباً، أشد وأقوى مما نحن عليه اليوم، وعلى
الأغلب لأنه يعيد إلى أذهاننا قرارات اتخذناها وخيارات قد نكون أخطأنا فيها، ولم
نتمكن من إصلاحها، أو نكون قد أدركنا أن البدائل كانت أفضل، وأنها ربما كانت لتجلب
لنا سعادة نفتقدها في حاضرنا.
بعض الأبحاث العلمية تشير إلى أن الحنين للماضي قد يكون أمراً إيجابياً
للصحة العقلية ويمكنه أيضاً تقليل أعراض القلق والتوتر والاكتئاب.. ومن جانب آخر،
فإن انخراط الأشخاص بالنشاط الذهني الخاص بالحنين إلى الأيام الخوالي، قد يكون
متعمداً، عبر اختيار التفكير في ذكريات سعيدة مرت بنا؛ وتساعدنا في ذلك محفزات
حسية، كالصور أو الروائح أو الأصوات، التي تفتح أمامنا أبواب الانغماس الكلي في
النوستالجيا.
لكن هذه الدراسات والأبحاث تشدد على أن التوق إلى الماضي هو أمر عادي جداً،
وأنه متناقل من جيل إلى آخر، فالكل يعتقد أن العقود السابقة أفضل من الزمن الحالي،
هناك من يرى أن الأربعينيات أفضل من الخمسينيات، أو أن الستينيات أفضل من
الثمانينينات.. بالنسبة إليّ، الثمانينيات هي السنوات الأفضل في تاريخ حياتي، من
جوانب عديدة، فيما أرى أن الستينيات والسبعينيات هما أفضل عقدين في حياة البشرية خلال
العصر الحديث.. القائمون على تلك الدراسات يرون أن النوستالجيا، وبالرغم من كونها
جزء من الطبيعة البشرية، فإنها مجرد وهم، إذ إن ظروف الماضي، من جوانب عديدة، لم
تكن يوماً أفضل مما هي عليه الآن؛ والحديث هنا يشمل الخدمات الطبية، التي لم تكن
في أفضل حالاتها قبل اليوم، والاتصالات الهاتفية وتلك المرتبطة بخدمات الإنترنت،
والمواصلات بكافة أشكالها، والتعليم، ووسائل الترفيه، وغيرها الكثير.
لكن مع التغير الكبير في حياتنا، والذي بدأ العام الماضي (عام الظلمة
والظلام؛ 2020) ولا يزال جاثماً على صدورنا، ويبدو أنه سيبقى مصاحباً لأيامنا خلال
الأشهر القادمة، فإن علينا أن نقر بأن الماضي أفضل من الحاضر وقد يكون أفضل أيضاً
من المستقبل.
ما شهدناه خلال الأشهر الماضية جاء فعلاً من روايات الخيال العلمي، التي
كنا نقرأها في الكتب أو نتابع أحداثها وشخوصها في أفلام سينمائية أو مسلسلات تلفزيونية..
في فترة زمنية قصيرة جداً، خسرنا الكثير؛ حرية حركتنا، في المدينة التي نقطنها أو
في تنقلاتنا بين الدول، حياتنا الاجتماعية، عاداتنا اليومية، مظهرنا وملابسنا،
طريقة قيامنا بمهماتنا في العمل.. حتى أننا بتنا نخشى من بعضنا البعض، كلنا يحاول
أن يبتعد عن الآخر، حتى لا تنتقل إليه العدوى من صديقه أو قريبه أو زميله في
العمل.. فجأة، أصبح عدم زيارة الأب والأم أمراً محموداً، فأنت بذلك تحمي والديك من
العدوى التي قد تكون أنت ناقلاً لها.. فجأة، أصبح إخفاء وجوهنا هو الأمر المقبول،
بعد أن كان من المطلوب أمنيا واجتماعياً أن تعرّف من أمامك بهويتك وتعرب له عن
سعادتك بالحديث إليه أو إليها عبر رسم ابتسامة على وجهك.. فجأة، أصبحت رؤية شخص
مريض في الشارع مثلاً، أمراً يتطلب ابتعادك عنه، بدلاً من مساعدته وطلب العون له
من الآخرين.. فجأة، أصبح ابتعادنا عن بعضنا فضيلة.
قد أكون مخطئاً، لكني أشعر بحنين قوي إلى ما قبل 2020.. هل ترون فعلاً أن
النوستالجيا مجرد وهم؟
No comments:
Post a Comment