Sunday, April 25, 2021

العجوز والغرفة المظلمة


دخلت إلى بيته، جلست أمامه وفي عينيها حزن كبير.. تجاعيد وجهها تحمل أثقال سنين عديدة، وملامحها تكشف ألماً طال أعواماً من حياتها.. سيدة مسنة، قد تكون في عقدها السابع أو الثامن، تحركت ببطء من الباب المفتوح أمامها، حتى وصلت إلى كرسي متواضع بدا مخصصاً لها في تلك الغرفة الصغيرة.
نظرتها إليه وحركة يديها والتردد في بدء حديثها، كلها أمور أظهرت خوفاً عميقاً في قلبها وعقلها؛ خوف من المواجهة وقلق من ردة الفعل ورعب مما سوف يتبع اللقاء والحديث والنقاش.
حركت رأسها لتنظر إلى زوايا المكان وتدقق في تفاصيله ومحتوياته، وبالرغم من كل ما في تلك الغرفة من رسوم وزخارف وتصاميم، فهي لم تر شيئاً سوى الظلام الذي كان يسود في الغرفة، باستثناء زاوية كان بها مصدر نور، لم تعرف طبيعته.
استجمعت قواها وقررت أن تبدأ هي في الكلام؛ "هل تعرف من أنا؟" سألت وانتظرت لحظة قصيرة قبل أن تجيب بنفسها: "بالطبع تعرفني، وتعرف كل حكايتي، كم أنا بلهاء لأطرح عليك مثل هذا السؤال". ثم عادت لتقول: "مع ذلك، اسمح لي أن أقدم نفسي وأروي قصتي".
"بدأت حياتي في قرية صغيرة، لن أذكر اسمها، فأنت أدرى بموقعها وبما حل بها، كنت صغيرة جداً عندما اندلعت الحرب، لم أفهم سببها، ولم أدرك من كان العدو ومن كان الصديق أو حتى على ماذا كان الصراع وقتها.. لكن ما أعرفه هو أن والديّ قررا الفرار والتوجه إلى ما وراء الحدود طلباً للعون وخوفاً من الموت ورغبة في حمايتي وحماية اخوتي وأخواتي... كنا خمسة، ثلاث بنات وولدان؛ لم يصل منا سوى أبي وأمي وأنا وأخواي."
تصمت قليلاً، وكأنها تحاول استرجاع ذكريات تلك الفترة، التي كانت فيها صغيرة لم تتجاوز الثامنة من عمرها؛ ذكريات باتت جزءاً منها ومن كل لحظة عاشتها بعد ذلك.. "وصلنا منهكين، جائعين.. غيرنا كثيرون وصلوا إلى الحدود وقد نهشت أجسادهم الأمراض، وشل أطرافهم البرد، أو فقدوا ساقاً أو ذراعاً في تفجير أو هجوم.. الصراخ والبكاء والتأوهات والعذاب، كانت الخلفية لكل المشاهد المطبوعة في ذاكرتي من تلك الأيام.. لا أكاد أذكر حدثاً أو وجه شخص، إلا وكان يسود المكان صوت طفل يبكي أو أم تنوح أو رجل يصرخ من شدة آلامه".. تظهر الدموع في عينيها، تخرج منديلاً وتضعه على وجهها لثوانٍ قصيرة، ثم تنظر إلى مضيفها، وتعود إلى حديثها: "لماذا؟ لماذا حدث كل ذلك؟ ما ذنبنا؟ والدي كان مزارعاً يعمل في بستانه، وأمي كانت ترعانا وتقوم بالعناية بمنزلها وبحياتنا.. لماذا؟ أعرف أنها أسئلة تصعب إجابتها، لكن من حقي أن أسألك: لماذا؟"
"استقبالنا في الجانب الآخر من الحدود لم يغير من أحوالنا كثيراً.. تم نقلنا إلى منطقة قاحلة، نصبت فيها خيام وقيل لنا: 'ابقوا هنا.. انتظروا أن تنتهي الحرب، ثم نرى ما سنفعل بكم بعدها'.. لا أريد أن أخبرك عن نوعية الطعام الذي كانوا يحضرونه إلينا كل يوم، بكميات هزيلة، لم تكن تتسبب إلا باندلاع شجار هنا وشجار هناك، بين من يريد أكثر لإطعام أبنائه أو من يرى أن آخر أخذ أكثر مما يستحق."
تنظر إليه مجدداً، وترفع من صوتها: "أنت تعرف عما أتحدث، أنت كنت معنا هناك، لكنك لم تفعل شيئاً لمساعدتنا، كنت أسمع والدي يطلب منك العون كل يوم، يبكي أمامك ويطلب منك أن تنهي عذابنا وتنقذنا، لكن..."
تعاود النظر إليه، ربما منتظرة أن يجيبها أو يفسر لها ما كان.. لكنها تقرر أن تواصل حديثها، فهي تعرف أن ما سيقوله لن يغير مما شهدته في حياتها شيئاً. "انتهت الحرب، لا أحد يعرف كيف انتهت، كما لم يفهم أحد لماذا اندلعت.. ووجدنا أنفسنا في بلد غريب لا يريدنا، بعيداً عن وطن لا يُسمح لنا بالرجوع إليه." تنظر إلى الزاوية المضيئة في الغرفة وتسأل: "كيف يمكن لشخص أن يصبح بلا وطن؟ كيف يمكن لإنسان عاش حياته بسلام وأمن أن يجد نفسه مشرداً بلا مأوى؟ من المسؤول عن ذلك؟ أنت؟ أنا؟ من؟"
تتناول كوباً من الماء، وجدته أمامها على طاولة صغيرة، وتشرب منه، ثم تفتح عينيها وكأنها تذكرت تفصيلاً مهماً لم تتحدث عنه: "أنا أيضاً كنت آتيك مع والدتي لنطلب مساعدتك، أتذكر؟ كنت أرى أمي والدموع في عينيها وهي تتوسل إليك."
"على كل حال، لم تستمر أوضاعنا تلك طويلاً، فقد تمكن أبي من العثور على عمل متواضع، سمح لنا بارتياد مدارس جيدة، ووفر لوالديّ إمكانية استئجار بيت صغير، عشنا فيه حتى تزوج أخي الأكبر وهاجر إلى الغرب، وتخرجت أنا من الجامعة وتزوجت، فيما توفي أخي الصغير بعد إصابته بمرض لم تكن لدى والدي القدرة المادية على تغطية تكاليف علاجه.. حزنت والدتي عليه كثيراً، توقفت عن الكلام، كنا نرى روحها تغادر جسدها يوماً بعد يوم، شيئاً فشيئاً، حتى لحقت به وبمن سبقه".. جئتك مرات عديدة في تلك الفترة، طلبت منك أن تساعدنا في توفير المال اللازم لعلاج أخي وفي مداواته، ثم طلبت منك أن تقف إلى جانب أبي وتعطه مبلغاً يسمح بنقل أمي إلى المشفى، لكنك خذلتنا مجدداً.. تركته في أزمته، كنت متفرجاً لا أكثر، لم تحرك ساكناً.. أنا لا ألومك طبعاً، فأنت كنت دائماً تطلب منا أن نعتمد على أنفسنا ولا ننتظر من الآخرين شيئاً، مهما كان صغيراً، لكنك تعرف ما كنا فيه، تعرف مدى قدرات أبي وأمي، لماذا لم تعطنا ولو مبلغاً صغيراً لكي تحول دون وقوع مأساة تلو الأخرى؟ لماذا؟"
"أرجوك لا تغضب مما أقول، لا أريد أن تفهم أني ألومك على ما حدث، لكن أليس من حقي أن أحزن وأغضب وأبكي... وأسأل؟ أليس من حقي أن أثور وأنفعل؟"
"لماذا لا تجيب؟ هل تريدني أن أغادر؟ لماذا سمحت لي بالدخول إن لم تكن تريد أن تتشارك معي في الحديث وتفسر لي ما حدث معي طوال سنوات عمري؟".. تصمت لبرهة، ثم تغمض عينيها، وتهمهم: "لماذا رفضت مساعدتنا؟ لماذا فضلت المشاهدة وعدم التدخل؟ ألست منا ونحن منك؟"
تبكي بحرقة لدقائق قليلة.. تعتذر مجدداً وتعاود الحديث: "رُزقت بثلاث بنات وابن واحد.. الابن كان الأكبر..كم كان حنوناً ومحباً لنا ولكل من عرفه.. كان ملاكاً بكل ما في الكلمة من معاني الطيبة والروح المرحة ونقاء القلب، فضلاً عن وسامته.. كنت أرى فيه صورة أبي، وكان أقرب إنسان إليّ.. لم يعش في دنيانا هذه أكثر من عشرين عاماً.. أصيب بالمرض الخبيث، الذي لا علاج له.. تألم في أسابيعه الأخيرة بصورة لم أشهد مثيلاً لها أبداً.. لكن، لماذا؟ هل من العدالة أن يذهب شاب مثل ابني لم يؤذ أحداً في حياته، فيما يسرح القتلة والفاسدون والمجرمون ويمرحون في كل مكان؟ لماذا لم يظهر داء يصيب هؤلاء ليحمي الناس منهم؟ لماذا يعمّرون ويعيشون ويتمتعون، فيما نعاني نحن ونتعذب ونتألم ونفقد أعز أحبابنا؟ قد يكون هذا مخططاً لا أعرف تفاصيله، أن يعيش ويتمتع الأشرار في هذه الحياة بينما يعيش ابني ويتمتع في الحياة الثانية.. لكن لماذا لا يعاقب المجرمون في حياتهم على أفعالهم في هذه الدنيا، ولماذا يجب علينا العذاب والألم في هذه الحياة؟"
تتحرك بثقل وتقف على قدميها، وتنظر إلى مضيفها: "لماذا لا يعود ابني إلي؟ ما الذي سيتغير في مسار الكون، إن عاد إلي صغيري؟ العقود التي عشتها بعد رحيله، مرت وكأنها آلاف السنين.. راودتني فكرة المجيء إلى هنا للحديث معك مرات عديدة، لكني كنت أقول لنفسي: 'لماذا؟ هل سيغير حديثي معك شيئاً؟' أنا أعرف أنك لن تغير شيئاً، لكن لم أستطع أن أصمت أكثر، كان علي أن آتي إليك وأسألك: 'هل ترى في مسار حياتي عدلاً من أي نوع؟ هل تعتقد أني أخذت من حياتي أي لحظة سعادة ورضا؟' "
تنهي الحديث وتتوجه مشياً صوب النور في زاوية الغرفة.. وتسير نحوه بدون تردد.. فتبدأ أجهزة مراقبة المريض في غرفتها بالمستشفى في إصدار تنبيهات متتالية؛ توقفت نبضات القلب، توقفت قراءات النشاط الدماغي.. يهرع الأطباء إلى غرفتها، يحاولون إنعاشها بكل الطرق، لكن قضي الأمر.. فقد قررت الذهاب باتجاه النور... في زاوية غرفة مضيفها.

No comments:

Post a Comment

Motorola StarTAC 130 الإرث المتواصل لهاتف

في عام 1998، شهد العالم ولادة أسطورة—Motorola StarTAC 130. لم يكن مجرد هاتف محمول؛ بل كان رمزًا للابتكار، والتصميم الأنيق، والموثوقية الثابت...