التهديدات التي وجهها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بفرض تعريفات كبيرة على دول مثل كندا والمكسيك، وفرضها بالفعل على الصين، وربما أيضاً على تكتلات مثل الاتحاد الأوروبي، وتلويحه بشكل متكرر باستخدام سلاح العقوبات بشكل أكبر على إيران وروسيا وغيرهما، يفرض ضرورة الإجابة عن سؤال مهم: ما مدى واقعية هذه التهديدات؟ وما نتائجها على الاقتصاد الأميركي نفسه، لو تم فرضها بالفعل؟
على مدى عقود، استغلت الولايات المتحدة هيمنتها الاقتصادية والمالية
للتأثير على الأسواق العالمية. ومع ذلك، فإن صعود القوى الاقتصادية البديلة،
وتزايد المقاومة لهيمنة الدولار الأميركي، والتغيرات المتسارعة في أنماط التجارة
العالمية باتت تشكل تحدياً لهذه الهيمنة الراسخة. وبينما تستمر الولايات المتحدة
في استخدام الإكراه المالي، والرسوم الجمركية، والقيود التجارية كأدوات للضغط،
تسعى العديد من الدول إلى تحقيق الاستقلال الاقتصادي، مما يشير إلى تحول جوهري في
موازين القوى الاقتصادية العالمية. ويهدد هذا التحول قدرة الولايات المتحدة على
فرض قواعدها في النظام المالي والتجاري الدولي بشكل أحادي.
معضلة الدولار: تناقض جوهري في السياسة
الاقتصادية الأميركية
أحد التحديات الرئيسية في السياسة الاقتصادية الأميركية يتمثل في
السعي للحفاظ على الدولار كعملة احتياطية عالمية، مع تقليص العجز التجاري في الوقت
نفسه. يمنح الدور
المركزي للدولار في التجارة العالمية الولايات المتحدة نفوذاً كبيراً على
المعاملات المالية الدولية، ويسمح لها بتمويل العجز دون تداعيات فورية. يعتمد هذا
النظام جزئياً على استمرار العجز التجاري الأميركي، حيث يؤدي إلى ضخ الدولارات في
الأسواق العالمية، مما يتيح للدول الأخرى الوصول إلى العملة اللازمة للتجارة
الدولية.
يظهر هذا التناقض بوضوح في السياسات التي تدعو إلى فرض الرسوم
الجمركية والقيود التجارية. وقد أشار الخبير الاقتصادي مايكل هدسون إلى أن الحفاظ
على وضع الدولار كعملة احتياطية يتطلب من الولايات المتحدة الاستمرار في تحقيق
العجز التجاري لتزويد الأسواق العالمية بالدولارات اللازمة. لكن تقليص هذا التدفق
عبر سياسات حمائية قد يؤدي إلى زعزعة استقرار الاقتصادات المعتمدة على احتياطيات
الدولار، مما قد يسبب أزمات مالية عالمية. (هدسون، "الإمبريالية الفائقة"،
2021؛ "قتل المضيف"، 2015).
هذه المخاوف ليست نظرية فحسب، بل إنها تتجسد بالفعل على أرض الواقع.
فقد سعت دول مثل الصين وروسيا إلى تقليل اعتمادها على الدولار، مدفوعة بالسياسات
الأميركية التي تستخدم الأنظمة المالية كسلاح اقتصادي. على سبيل المثال، فرضت
واشنطن عقوبات على روسيا بعد ضمها لشبه جزيرة القرم، مما دفع موسكو إلى تسريع
جهودها للتخلص من هيمنة الدولار. وبالمثل، فإن الصين تسعى إلى تدويل عملتها اليوان
كجزء من استراتيجية لحماية اقتصادها من الإكراه المالي الأميركي. ووفقًا لتقرير
صادر عن المجلس الأطلسي لعام 2023، "ارتفعت
المدفوعات عبر الحدود باليوان الصيني بنسبة 24% منذ عام 2020، مما يعكس تحولاً
تدريجياً بعيداً عن الدولار.
سلاح ذو حدين: النفوذ الاقتصادي
الأميركي وتأثيراته العكسية
أصبحت الولايات المتحدة تعتمد بشكل متزايد على أدوات الحرب
الاقتصادية، مثل العقوبات، والقيود التجارية، والإكراه المالي، كوسائل للضغط
السياسي والاقتصادي. وتستخدم هذه السياسات كبديل عن المواجهات العسكرية المباشرة،
حيث تعتمد واشنطن على النفوذ المالي لإجبار الدول الأخرى على الامتثال لسياستها.
لكن لهذا النهج حدوده؛ فعلى الرغم من أنه قد يحقق نتائج على المدى القصير،
فهو يحفز الدول المستهدفة على تطوير أنظمة اقتصادية بديلة. وكما أشار هدسون، يمكن
للحروب المالية والتجارية أن تكون بديلاً للقوة العسكرية لفرض السيطرة الاقتصادية،
"في العادة،
لا تحتاج إلى القوة العسكرية لإخضاع اقتصاد آخر واستعماره. يمكنك استخدام الحرب
المالية، ويمكنك استخدام الحرب التجارية، وهذه تُعتبر 'سلمية'." (هدسون، "الإمبريالية
الأميركية في العلن"، 2025).
تتجلى هذه الظاهرة في دول البريكس (البرازيل، روسيا، الهند، الصين،
وجنوب إفريقيا)، التي توسع تدريجياً تجارتها بعملاتها المحلية. فقد شهدت التجارة
بين روسيا والصين ارتفاعاً ملحوظاً في استخدام الروبل واليوان، مما قلل من
اعتمادهما على الدولار الأميركي. ووفقًا لما ذكره الخبير في الشؤون المالية
والاقتصادية أليكس كرينر في حوار جمعه مع الصحفي والمحلل الجيوسياسي بيبي
إسكوبار، "نشهد بالفعل تحولاً كبيراً في التجارة بين روسيا والصين إلى
العملات المحلية."
ولا يقتصر هذا الاتجاه على دول البريكس فقط، بل يمتد ليشمل دولاً في أميركا
اللاتينية، وإفريقيا، وجنوب شرق آسيا، التي تبحث عن بدائل للنظام المالي المهيمن
على الدولار؛ فقد ناقشت الأرجنتين والبرازيل إمكانية إنشاء عملة إقليمية موحدة (رغم
أن قدوم خافيير ميلي قد يعرقل هذا الاتجاه)، في حين بدأت الهند في تسوية بعض
المعاملات الدولية بعملتها المحلية، الروبية. وتشير بيانات صندوق النقد الدولي إلى
انخفاض نسبة الدولار في الاحتياطيات العالمية، على الرغم من أنه لا يزال يحتفظ
بسيطرة كبيرة.
التعقيدات الناتجة عن السياسات الحمائية
تهدف السياسات الحمائية، مثل فرض الرسوم الجمركية، إلى حماية
الصناعات المحلية، لكنها قد تؤدي إلى عواقب غير مقصودة. وبينما يرى البعض أنها
ضرورية لحماية الشركات الأميركية، يؤكد آخرون أنها غالباً ما تؤدي إلى نتائج
عكسية، خاصة إذا واجهت إجراءات انتقامية من الدول الأخرى. على سبيل المثال، فإن
فرض رسوم جمركية بنسبة 100% على دول البريكس قد يؤدي إلى عزل الولايات المتحدة عن
الأسواق الناشئة بشكل شبه كامل.
كما أن القيود التجارية قد تضر بالشركات الأميركية التي تعتمد على
الأسواق الدولية. فالكثير من الصناعات الأميركية تعتمد على التصدير، وتقييد هذه
الفرص قد يؤثر على النمو الاقتصادي. وقد حذر هدسون من أن "فرض قيود على
التجارة الخارجية قد يحد من القدرة على البحث والتطوير، مما يؤدي إلى تراجع القدرة
التنافسية التكنولوجية على المدى البعيد." (هدسون، "الإمبريالية
الأميركية في العلن"، 2025).
في الحوار الذي جرى بين كرينر وإسكوبار، أشار كرينر إلى أن القلق يمتد الآن إلى ما هو أبعد من التجارة، ليشمل المنافسة التكنولوجية أيضاً، موضحاً كيف أن صانعي السياسات في الولايات المتحدة استهانوا بالتقدم التكنولوجي السريع في الصين، لا سيما في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي... في الماضي، كانت الشركات الأميركية تهيمن على القطاعات الرئيسية في التكنولوجيا، ولكن وفقاً لكرينر نفسه، "الصين تتصدر اليوم في 60 مجالاً من أصل 64 من المجالات التكنولوجية الرئيسية، بينما تتصدر الولايات المتحدة في ستة أو سبعة فقط." يعكس هذا التحول الدراماتيكي كيف أن السياسات الاقتصادية التقييدية، بدلاً من تعزيز الابتكار، قد تسرّع فعلياً في تراجع القيادة التكنولوجية العالمية للولايات المتحدة.
عالم متغير: رد الفعل الدولي على
السياسات الأميركية
مع تزايد عدد الدول التي تسعى إلى تحقيق استقلالها الاقتصادي، تواجه
الولايات المتحدة تحدي الحفاظ على نفوذها دون عزل حلفائها وشركائها، وهناك مخاوف
من أن تكتسب السياسات الاقتصادية العدوانية للولايات المتحدة صفة العدائية بدلاً
من التعاونية.
ويزيد هذا التعقيد من خلال السياسات المتناقضة التي تتبعها واشنطن.
فقد تضغط الولايات المتحدة على الدول لاستخدام الدولار، فيما تفرض، في الوقت ذاته،
عقوبات تمنع تلك البلدان من ذلك. هذا التناقض يضع بعض الدول في موقف صعب، خاصة تلك
التي تحاول طوعاً المشاركة في النظام المالي الذي تقوده الولايات المتحدة.
بيبي إسكوبار أشار إلى أن هناك من يرى في السياسات الأميركية تهديدًا
اقتصادياً، مما يدفعه للبحث عن أنظمة مالية بديلة.
التكيف مع عالم متعدد الأقطاب
يشهد النظام الاقتصادي العالمي تطوراً سريعاً، وتراجعاً في قدرة
الولايات المتحدة على فرض سياساتها الاقتصادية بشكل أحادي. فقد أثبتت أدوات الإكراه
الاقتصادي، والرسوم الجمركية، والهيمنة المالية عدم فعاليتها مع تطور أنظمة مالية
بديلة... وبينما قد تحاول واشنطن الحفاظ على السيطرة، فإن العواقب غير المقصودة قد
تسرّع الانتقال إلى عالم اقتصادي متعدد الأقطاب.
الخبراء يؤكدون أن إنشاء أنظمة مالية بديلة يعني أن حفاظ الولايات
المتحدة على نفوذها التقليدي سيكون أمراً في غاية الصعوبة.
والسؤال الأساسي الآن هو: "هل ستتمكن الولايات المتحدة من
التكيف مع هذه التحولات، أم ستستمر في مسار قد يؤدي إلى عزلها اقتصادياً؟"
استمرار الاعتماد على استراتيجيات قديمة قد يجعلها تتخلف عن الركب، فيما يشير صعود
البدائل الاقتصادية، وحركة إزالة هيمنة الدولار، والتقدم التكنولوجي العالمي إلى
مستقبل يحتاج فيه الاقتصاد الأميركي إلى إعادة تعريف دوره العالمي بدلاً من محاولة
التمسك بالهيمنة التقليدية.
إياد أبو عوض
Sources:
1. Michael Hudson, *Super Imperialism: The Economic Strategy
of American Empire* (2021).
2. Michael Hudson, *Killing the Host: How Financial
Parasites and Debt Bondage Destroy the Global Economy* (2015).
3. Michael Hudson, *American Imperialism in Plain Sight*
(2025). (https://michael-hudson.com/2025/02/american-imperialism-in-plain-site/)
4. Atlantic Council, “By the numbers: The global economy in
2024”. (https://www.atlanticcouncil.org/blogs/new-atlanticist/by-the-numbers-the-global-economy-in-2024/)
5. International Monetary Fund (IMF), “Currency Composition
of Official Foreign Exchange Reserves” (2022). (https://data.imf.org/?sk=e6a5f467-c14b-4aa8-9f6d-5a09ec4e62a4)
6. YouTube video discussion with Alex Krainer and Pepe
Escobar. (https://www.youtube.com/watch?v=suZYb-8eAKk)