Sunday, December 22, 2024

معضلة الزمن.. التكنولوجيا كمعيار لمرور السنين في أعمارنا


إنه بالفعل أمر مثير للدهشة وفي الوقت ذاته مربك إلى حد كبير؛ أن ندرك أن بعض الناس الذين نعرفهم ونتعامل معهم اليوم ليست لديهم أي معرفة بالمعالم التكنولوجية والتجارب، التي شكلت حياة الأجيال السابقة؛ الأجيال التي كنا نحن جزءاً منها... هذا الإدراك يعتبر تذكيرًا مؤلماً (في بعض الأحيان) بكيفية مرور الوقت—غالباً بدون أن نلاحظه—وكيف يمكن لأي أمر مألوف أن يصبح قديماً بسرعة. كما يعكس ذلك الرحلة التي يمر بها الجميع: من الشباب إلى منتصف العمر، ومن ثم إلى الشيخوخة، لنكتشف فجأة أن الأدوات والممارسات التي كنا نعتمد عليها في طفولتنا وشبابنا أصبحت من آثار الماضي، غير معروفة للأجيال الجديدة.

مَن يذكر اليوم أو حتى يعرف ماهية أجهزة الفاكس والتلكس؟ من يتذكر ضرورة انتظار وصول الرسائل في مكتب البريد، بدلاً من انتظار رسائل فورية عبر تطبيقات واتساب وتليغرام؟

فكر على سبيل المثال في صوت ربط مودم الـ Dialup بالإنترنت؟ بالنسبة لبعضنا، كان هذا الصوت المميز عنوان عصر رقمي جديد، مزيجًا من الأمل والتقدم والتطور اللامحدود. اليوم، يبدو مفهوم الانتظار دقائق قبل الوصول إلى موقع إلكتروني ما أمراً غير معقول للأجيال الجديدة، التي تعرف فقط الاتصال السريع والفوري.

فكر في تطور الهواتف... مَن من الشباب اليوم يعرف كيفية استعمال هاتف ثابت مع قرص دوار؟ مفهوم الانتظار في المنزل والجلوس بجانب الهاتف لاستلام مكالمة مهمة غير مألوف لجيل يعتمد على الأجهزة المحمولة التي توجد دائمًا في متناول اليد... وماذا عند الحديث عن الهواتف المحمولة؛ كانت حيازة جهاز بحجم كبير كالطوبة علامة للفخر والتقدم التقني... أجهزة مثل Motorola StarTAC التي كانت تمثل قمة التقدم التكنولوجي بشكل مدهش في وقتها، توجد الآن في المتاحف وتعتبر تذكارات نادرة لهواة التاريخ (مثلي 😊). ومع ذلك، فإن هذه الاختراعات فتحت الطريق للهواتف الذكية الرقيقة والمتعددة الوظائف التي نعتمد عليها اليوم.

عملية تنصيب نظام تشغيل مثل Windows 95 أو Windows 98 كانت تعتبر تحديًا كبيراً... كانت تتطلب إدخال 16 إلى 32 قرصًا مرنًا Floppy Disks ومتابعة عملية إدخالها واحدا تلو الآخر.. كانت العملية كلها قد تفشل إذا تضرر قرص واحد أو تعرض للمسح المغناطيسي، مما أجبر المستخدم على البدء من الصفر؛ مهمة محبطة للغاية ومضيعة للوقت بحسب معايير اليوم.

يمكن قول الشيء نفسه عن وسائط التخزين... أيام إعادة لف أشرطة VHS أو التقليب من أجل البحث عن أغنية محبوبة أو مقطوعة موسيقية، أمر تم استبداله بخدمات البث الفوري التي توفر مكتبات ضخمة من المحتوى المسموع والمشاهَد. الأجيال الجديدة قد لا تعرف أبدًا صعوبة وجود قرص CD مخدوش يتقطع صوت الموسيقى الصادر عنه، أو سعادة إنشاء شريط موسيقي Mix لصديقة، وهو تصرف شخصي ومؤثر لكنه تلاشى في العصر الرقمي.

حتى الطريقة التي نستهلك فيها الأخبار والمعلومات خضعت لتحول جذري... من الانتظار بفارغ الصبر للجريدة الصباحية أو الجلوس أمام شاشة التلفزيون لمشاهدة نشرة الأخبار مساءً، انتقلنا إلى عصر التحديثات الفورية عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات الجرائد والمجلات والمواقع الإخبارية.. التجربة اللمسية لقلب الصفحات المطبوعة أو تعديل هوائي التلفزيون للتمكن من تحسين الاستقبال، كلها الآن مفاهيم غريبة ومنسية، حل مكانها المسح والنقر على الشاشات اللمسية.

هذه التحولات ليست فقط علامة على سرعة التقدم التكنولوجي، ولكنها تعكس أيضًا تفاعل تاريخنا الشخصي مع هذه الاختراعات... كل جهاز قديم وكل ممارسة منسية هي لحظة من الزمن، فصل من قصة حياة كلٍ منا؛ تذكرنا بالتحديات التي واجهناها والأمور المدهشة التي احتضناها في عالم كان في وقته يبدو القمة في الحداثة والتقدم.

ومع ذلك، هذا الوعي يصاحبه عادة شعور بالحزن... ليس فقط بسبب التقدم في العمر، بل أيضاً لأن مرور الزمن يعني أن ندرك أن ما كان يومًا يمثل الواقع بالنسبة لنا، أصبح الآن ذكرى بعيدة، بالنسبة للأجيال الجديدة التي نشأت في عالم الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي والتكنولوجيات الذاتية الأداء.

قد تُقابل الابتكارات الحديثة يومًا ما بنفس المزيج من الحنين والحيرة التي نشعر بها تجاه الهواتف الأرضية والأقراص المرنة.

ختاماً، هذه الرحلة عبر تطور التكنولوجيا ليست مجرد قصة أدوات وأجهزة؛ فهي شهادة على الإبداع البشري، والمرونة، ودافعنا الدائم للتحسين والابتكار... في الوقت نفسه، تُذكرنا بلطف بضرورة التوقف للحظة وتقدير اللحظات العابرة، والتجارب المشتركة، والقصص التي نحملها معنا نحو مستقبل دائم التغير. وبذلك، نكرم كلًا من التقدم الذي حققناه، وذكريات زمن كانت فيه الحياة، رغم كونها أكثر تعقيدًا، ثرية بالمعاني والتجارب.

Thursday, November 21, 2024

الوهم الأكبر: أسطورة الانتصار في حرب نووية

 
تثير التصريحات الأخيرة التي نُسبت إلى الأميرال توماس بيوكانان، المتحدث باسم القيادة الإستراتيجية الأمريكية (STRATCOM)، موجة من القلق والاستياء... بوكانان ناقش احتمال "الانتصار" في حرب نووية ضد روسيا، متجاهلًا على ما يبدو الخسائر الكارثية التي قد تنجم عن مثل هذا الصراع. هذه التصريحات خطيرة للغاية، فهي تتحدى الإجماع العالمي الذي يعتبر الأسلحة النووية أدوات للردع، وليست أدوات للحرب.

فكرة "الانتصار" في حرب نووية هي وهم خطير يجب التصدي له وإيقافه قبل أن يتصاعد إلى تهديد وجودي حقيقي.

 

التحول المقلق في العقيدة النووية

على مدى عقود، كانت الأسلحة النووية تُعتبر في الأساس وسيلة للردع تذكير قاتم بقدرة البشرية التدميرية. تعتمد هذه الإستراتيجية، التي تُعرف غالبًا بمفهوم "التدمير المتبادل المؤكد" (MAD)، على الفرضية بأن استخدام الأسلحة النووية من قِبل أي قوة عظمى سيؤدي إلى إبادة جميع الأطراف المعنية... وقد كان هذا المفهوم ركيزة أساسية للأمن العالمي منذ الحرب الباردة، حيث حافظ على توازن غير مستقر ولكنه فعال بين الدول المسلحة نوويًا.

ومع ذلك، إذا كان مسؤولون مثل الأميرال بوكانان يدعون حقًا إلى إمكانية "الانتصار" في صراع نووي، فإن ذلك يمثل انحرافًا خطيرًا عن هذه العقيدة. مثل هذا الخطاب يقوض عقودًا من جهود الحد من التسلح ويشير إلى استعداد للنظر في الحرب النووية كخيار قابل للتنفيذ وهو احتمال مليء بالعواقب الكارثية.

 

التكاليف الكارثية للحرب النووية

فكرة "الانتصار" في حرب نووية ليست فقط غير أخلاقية، بل هي أيضًا خاطئة إستراتيجيًا ومستحيلة عمليًا... أي صراع نووي مع روسياأو أي دولة مسلحة نوويًا— سيؤدي إلى دمار غير مسبوق، بما في ذلك مقتل الملايين، مع معاناة الناجين من إصابات خطيرة وأمراض إشعاعية؛ التسبب بحرائق ضخمة، وإطلاق إشعاعات نووية، وإتلاف النظم البيئية على المستوى الطويل الأمد.. بالإضافة إلى ذلك، فإن الحرب النووية قد تؤدي إلى "شتاء نووي" يحجب أشعة الشمس ويعطل الزراعة العالمية، مما قد يتسبب في مجاعات على نطاق واسع، وينتهي بانهيار اقتصادي وتدمير البنية التحتية في دول العالم.

قبول مثل هذه الخسائر كأضرار جانبية في سبيل تحقيق "النصر" هو تخلي مروع عن المسؤولية الأخلاقية والإدارة العقلانية.

 

في الختام...

المناخ الجيوسياسي الحالي والنزاع القائم، الذي يتميز بتوتر متنامٍ بين الولايات المتحدة وروسيا، يزيد بشكل كبير من مخاطر مثل هذا الخطاب... مع مواجهة، مثل الحرب في أوكرانيا والخلافات حول دور الناتو في أوروبا، يرتفع احتمال سوء الحسابات بصورة خطيرة... وإدخال مفهوم "الانتصار" في حرب نووية إلى هذه المعادلة الصعبة قد يزعزع جهود السلام الهشة.

من الناحية الأخلاقية، من المستحيل الدفاع عن فكرة استخدام الأسلحة النووية... إذ إن تأثيرها العشوائي الهائل على المدنيين يجب أن يبقيها في إطار الملاذ الأخير، وليس أداة للطموح الإستراتيجي.

يجب أن يرفض العالم الوهم الخطير المتعلق بإمكانية "الانتصار" في حرب نووية، وأن يعمل بشكل مكثف لضمان عدم استخدام مثل هذه الأسلحة مرة أخرى. أي شيء آخر يمثل تهديداً لمستقبل كوكبنا بأسره.

المعتوه بيوكانون يتحدث عن إمكانية الفوز في حرب نووية ضد روسيا، بغض النظر عن الخسائر؟

يجب وقف هذا الجنون.

إياد أبو عوض

 

 

Sunday, October 6, 2024

Motorola StarTAC 130 الإرث المتواصل لهاتف


في عام 1998، شهد العالم ولادة أسطورة—Motorola StarTAC 130. لم يكن مجرد هاتف محمول؛ بل كان رمزًا للابتكار، والتصميم الأنيق، والموثوقية الثابتة. بفضل تصميمه المدمج وآلية الفتح المبتكرة، شكّل StarTAC 130 لحظة محورية في تطور الاتصالات المحمولة.

بعد مرور 26 عامًا، وعلى عكس كل التوقعات، لا يزال هذا الأثر الذي يبدو متقادمًا ينبض بالحياة. وعلى الرغم من اعتماده على شبكة 2G التي أصبحت قديمة الآن، لا يزال StarTAC 130 يجري المكالمات ويرسل الرسائل النصية بكل سهولة. في عالم تتسارع فيه التكنولوجيا نحو التقادم، يقف هذا الهاتف كناجٍ مقاوم—شاهدًا على أوقات أكثر سهولة وبساطة.

ولكن دعونا نفكر قليلاً: أي هاتف ذكي معاصر يمكنه التفاخر بمثل هذه الديمومة؟ في عصر التصنيع الذي يتعمد "التقادم للتجديد"، يعتبر العثور على هاتف يظل يعمل لأكثر من عقد من الزمان أمرًا نادرًا.

إن قدرة StarTAC 130 على الصمود تبرز التباين الواضح بين ممارسات الهندسة في الماضي والحاضر. في السابق، كانت المنتجات تُصنع بعناية مع التركيز على المتانة وطول العمر... الأجهزة، مثل StarTAC، كانت أعمدة راسخة—مبنية لتتحمل السنوات، وليس مجرد دورة التحديث التالية... والآن يطرح السؤال: "أي هاتف محمول اليوم يمكن أن نتوقع أن يعمل لأكثر من ربع قرن؟" في عالم تُصمم فيه الأجهزة عادةً لتكون قابلة للتقادم المخطط له، يُعتبر العثور على هاتف يعمل بشكل صحيح حتى بعد مرور 10 سنوات - إذا أمكن ذلك - أمرًا نادرًا... الهواتف الذكية الحديثة، المليئة بأحدث الميزات والتقنيات المتطورة، غالبًا ما تكافح للحفاظ على أدائها حتى بعد بضع سنوات من الاستخدام؛ تدهور البطارية، وتحديثات البرامج، والقيود المتعلقة بالأجهزة تجعلها غير فعالة بشكل أسرع بكثير مقارنة بنظيراتها الأقدم.

لذا، فهاتف StarTAC 130—القادم من الماضي، يذكرنا بأن الحرفية كانت تتفوق ذات يوم على الاتجاهات التجارية التي تهدف للربح "فقط". إنه جهاز يتحدى الزمن، ويشير إلى حقبة كانت فيها التكنولوجيا أكثر من مجرد شيء يُستهلك بسرعة—كانت فنًا يدوم.

Tuesday, September 17, 2024

مستقبل التكنولوجيا.. ما هو الإنجاز الكبير القادم؟



من السهل أن نتخيل مستقبلًا مليئًا بالسيارات الطائرة الذاتية القيادة أو حتى الرحلات الروتينية إلى المريخ (التي يعدنا بها إيلون مسك) فالتكنولوجيا تتقدم بخطوات كبيرة ومتسارعة يصعب اللحاق بها بشكل مستمر.

وفي عالمنا الخاص، تغرينا التقنية دائمًا بأحدث الأجهزة، سواء كانت أفضل الهواتف الذكية أو أقوى الكمبيوترات المحمولة. وغالبًا ما نعتقد أن هذه المنتجات ستتفوق على المنافسة، وستوفر لنا سنوات من السعادة، وستبرر الاستثمار فيها.

كثير منا يعرف هذا الشعور جيدًا — سواء كان ذلك عند شراء أول جهاز  Microsoft Surface Pro وأول iPad Pro من أبل مع قلم Apple Pencil المتفوق، أو حتى هاتف Galaxy Fold... إن الترقب لامتلاك شيء جديد ومتطور قد يكون أقوى من أن يقاوَم... لقد استخدمتُ هذه المنتجات بشكل مكثف وقدرت الإثارة التي قدمتها والشعور الإيجابي الذي جلبته معها.

الآن، الاهتمام الأكبر يتجه نحو الحواسيب الشخصية التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي... المفهوم بسيط: يجب أن تحتوي الكمبيوترات، التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، على وحدة معالجة مركزية (CPU) ووحدة معالجة الرسومات (GPU) ووحدة معالجة عصبية (NPU) مصممة لتلبية متطلبات الحوسبة المتوازية الخاصة بالذكاء الاصطناعي.

ومع ذلك، لو كنت قد اشتريت حاسوبًا شخصيًا يعتمد على الذكاء الاصطناعي في بداية هذا العام، فهو سيكون قديماً بالفعل الآن؛ ظهرت شريحة Intel Meteor Lake “Core Ultra” بوحدة المعالجة العصبية (NPU) في "الكمبيوترات المحمولة الذكية" من Acer و Lenovo... ومع ذلك، بحلول شهر مايو، أعلنت مايكروسوفت أن تلك الأجهزة باتت بطيئة جدًا في تلبية معاييرها الجديدة الخاصة بــ Copilot+، والتي تتطلب وحدة معالجة عصبية قادرة على تنفيذ 40 تريليون عملية في الثانية  (TOPS)، فيما يمكن لوحدة الـ (NPU) من إنتل معالجة 10 تريليون عملية في الثانية فقط... والآن، الحواسيب الشخصية التي تعتمد على شرائح ARM من Qualcomm والمصممة خصيصًا لتلبية هذا المعيار تغزو الأسواق.

لكن هل هذا التطور كافٍ لتبرير شراء أجهزة جديدة؟

شخصيًا، لا أعتقد أن التبني المبكر للكمبيوترات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي هو الخطوة الأذكى في الوقت الحالي.. وأخطط للتمسك بأجهزتي الحالية لفترة أطول، محاولًا الاستفادة من قيمتها إلى أقصى حد قبل الانتقال إلى الخطوة التكنولوجية الأكبر.

وفيما نتحدث عن هذا الموضوع، يجدر بنا أن نسأل: ما هو الإنجاز الكبير التالي في التكنولوجيا؟ لقد فكرت في هذا كثيرًا في الفترة الأخيرة... ولسنوات، توقعت أن "الذكاء الاصطناعي" سيكون الحدث الكبير المنتظر. ولكن مع الاهتمام الكبير الذي حصل عليه الــ AI مؤخرًا، يبدو أن هذا الجواب بات قديمًا؛ فالذكاء الاصطناعي الآن يبدو جزءاً من الحاضر أكثر من كونه مشهداً من المستقبل.

إذن، ما البديل؟ الحوسبة الكمية (Quantum Computing) التي تستخدم مبادئ الفيزياء الكمية لإنشاء كمبيوترات فائقة السرعة قادرة حتى على فك شيفرة أكثر كلمات المرور أمانًا وتعقيداً.. لكن هذه التقنية لا تزال بعيدة عن الاستخدام العملي في الأجهزة الشخصية.. هل البديل هو Web 3.0؟ الذي يعد إنترنت أكثر ذكاءً من دون مركزية في إدارته، حيث يكون الذكاء الاصطناعي موجودًا في كل أرجائه، مما يجعل استخدامات الإنترنت أكثر سهولة وكفاءة.. سيكون نظاماً يتم فيه ربط جميع البيانات العالمية، مما يسمح للآلات بفهم وتفسير المعلومات بمستوى مماثل لذلك الخاص بالبشر.

وعلى عكس الواقع الذي نعيشه اليوم، حيث تتحكم شركات التكنولوجيا الكبرى في بيانات المستخدمين، يعد Web 3.0 بتمكين الأفراد من السيطرة على معلوماتهم الشخصية.. فيما ستضمن تقنية الـ Blockchain الشفافية والأمان، ما سيسمح بالتبادلات المباشرة بين الأفراد دون وسطاء مثل البنوك أو الشركات، وستسهل العملات المشفرة المعاملات، وستقوم العقود الذكية بأتمتة الاتفاقيات.

نظريًا، يمكن أن يجعل هذا التحول عمالقة التكنولوجيا التقليديين والمؤسسات المالية الكبرى أقل أهمية، مما يحقق ديمقراطية الإنترنت وتمكين المستخدمين.

وبعد كل ذلك، ربما علينا أن ننظر إلى ما هو أبعد من السيليكون؛ التكنولوجيا الحيوية تتقدم بسرعة، مما يمكّن من تحقيق اختراقات في المجالات الطبية، وتعديل الجينات، وعلم الأحياء الاصطناعي، الأمر الذي قد يطلق ثورة في الرعاية الصحية.

وسط هذه الأفكار، غيّرت محادثة واحدة وجهة نظري؛ عندما سألني شخص مؤخراً عن توقعي للإنجاز الكبير القادم، كانت لدي إجابة جديدة: الروبوتات المستقلة والواعية ذاتياً... تخيلوا آلات ليست فقط ذكية، بل أيضاً مستقلة وقادرة على الاعتماد على نفسها. ومع ذلك، يجب أن نتعامل بحذر مع هذا الاحتمال: إذا أصبحت الروبوتات ذكية جدًا، فقد تستنتج ببساطة أن البشر أغبياء للغاية ويمكن القضاء عليهم بسهولة... دعونا نأمل ألا تصل إلى هذا الاستنتاج قريبًا.

Sunday, August 18, 2024

مفهوم الثنائية: بين النور والظلام


تشكل الثنائية بين النور والظلام، الخير والشر، حجر الزاوية في الثقافة الإنسانية، مؤثرة على المعتقدات الدينية، الفكر الفلسفي، والفهم العلمي... لقد صاغ هذا المفهوم تصوراتنا حول الأخلاق، العدالة، والقوى الأساسية التي تحكم الكون، وظهر في الأساطير، الأديان، التاريخ، والعلم الحديث.


الثنائية الأسطورية والدينية

صورت الأساطير القديمة عبر الثقافات المختلفة الصراع بين النور والظلام كصراع كوني. في الزرادشتية، يعارض أهورا مازدا، إله النور، أنغرا ماينيو (أهرمان)، روح الظلام... يرمز هذا الصراع إلى النزاع المستمر بين النظام والفوضى، الخير والشر، حيث يمثل النور قوى الخلق والجمال، بينما يرمز الظلام إلى الدمار والقبح.

المعركة الكونية بين الإله أهورا مازدا والإله أهريمان في الديانة الزرادشتية


في الأساطير النوردية، يقتل الذئب الوحشي فنرير كبير الآلهة أودين، فيما يعد تمثيلا رمزيا للصراع الحتمي بين النظام والفوضى... وبالمثل، تقدم الأساطير اليونانية إيريس، إلهة الخلاف، التي غضبت لعدم دعوتها لحضور حفل زفاف بليوس وثتيس فتسببت في نهاية المطاف باندلاع حرب طروادة، مما يوضح كيف يشكل التفاعل بين الانسجام والصراع مصير الإنسان.

في الأساطير النوردية، يلقى الإله أودين حتفه في مواجهة مع الذئب الوحشي فنرير

في التقليد اليهودي-المسيحي، تبدأ رواية الكتاب المقدس بخلق الله للنور وفصله عن الظلام. يؤسس هذا الأمر لفكرة الثنائية، حيث يرتبط النور بالخير الإلهي، والظلام بالخطيئة والفوضى... ومع ذلك، تكون هذه الثنائية أكثر تعقيدًا في السياقات الدينية، حيث يُنظر إلى الشر غالبًا على أنه فساد أو غياب للخير، وليس بوصفه قوة موازية لكن بالاتجاه العكسي.

عبر الروايات الدينية، نجد شخصيات مثل الشيطان في المسيحية، الذي يجسد الظلام والشر المطلق، ويقف ضد نور الله. بالمثل، تقدم التعاليم الإسلامية إبليس كشخصية ظلامية تسعى لإغواء البشر... تعكس قصة آدم وحواء، والأفعي في جنة عدن، وتجارب الأنبياء المختلفة عبر الأديان هذا التوتر الثنائي بين النور والظلام، الخير والشر.

في الرواية الدينية، الشيطان يغوي آدم وحواء لأكل التفاحة  وعصيان الرب

 

التفسيرات الفلسفية للثنائية

تناول الفلاسفة الطبيعة الثنائية بين الخير والشر، النور والظلام. رأى سقراط أن الشر هو شكل من أشكال الجهل، حيث يرتكب الأفراد أفعالًا خاطئة بسبب نقص المعرفة الحقيقية بالخير... في المقابل، اعتبر هيغل الشر ضرورة لا بد منها، حيث يجادل بأن الخير لن يكون له أي قيمة إذا لم يكن هناك شر ليواجهه ويهزمه.

وسع الفلاسفة المعاصرون هذه الأفكار، حيث يقترح أتباع المدرسة الفلسفية النفعية، على سبيل المثال، أن أخلاقية الفعل تتحدد بناءً على مقدار مساهمته في السعادة العامة لأكبر عدد من الناس... حوّل هذا النهج البراغماتي للخير والشر التركيز من المبادئ الأخلاقية المطلقة إلى نتائج الأفعال، مما يعقد الرؤية الثنائية المبسطة.


المنظور العلمي: إعادة تعريف الظلام

من منظور علمي، الظلام ليس قوة أو كيانًا، بل هو ببساطة غياب النور. ينبعث من جميع المواد نوع من الإشعاع الكهرومغناطيسي، بغض النظر عن درجة حرارتها، مما يتحدى الفكرة الثنائية التقليدية التي ترى في الظلام قوة مستقلة. يتماشى هذا الفهم مع الاستعارة في الكتاب المقدس للرب كقائد للنور، الذي يحدد الظلام بغيابه وليس بوجوده.

في اتساع الكون الشاسع، حتى في أظلم المناطق بين المجرات، يوجد دائمًا شكل من أشكال الإشعاع، سواء من النجوم البعيدة أو إشعاع الخلفية الكونية... يشير هذا إلى أن الظلام الحقيقي، كغياب كامل للنور، لا يوجد فعليًا، مما يتحدى الثنائية التقليدية التي تضع النور ضد الظلام كقوى متعارضة.

حتى في أظلم المناطق بين المجرات، يوجد دائمًا شكل من أشكال الضوء 


الأبعاد النفسية والاجتماعية للثنائية

غالبًا ما يتأرجح السلوك البشري بين الأفعال التي تُعتبر خيرة وتلك التي تُعتبر شريرة، متأثرة بعدة عوامل، بما في ذلك الظروف النفسية والاجتماعية والبيئية. سؤال لماذا يرتكب البشر أفعالًا فاضلة أو شريرة حير المفكرين عبر التاريخ. كان سقراط يعتقد أن الأفعال الشريرة تنبع من الجهل، بينما يشير علم النفس الحديث إلى أن السلوك الأخلاقي يتأثر بتداخل معقد من الغرائز والتربية والمعايير الاجتماعية.

تستكشف الدراسات الحديثة في علم الاجتماع، علم النفس، والإيثولوجيا أصول الإيثار والعدوان، مشيرة إلى أن هذه السلوكيات متجذرة بعمق في تاريخنا التطوري. على سبيل المثال، أكد عالم سلوك الحيوان النمساوي إيرينيوس إيبل-إيبيسفيلدت أن الإيثار والأنانية هما سلوكيات غريزية تطورت كاستراتيجيات للبقاء، حيث فضّل الانتقاء الطبيعي أولئك الذين تعاونوا داخل مجموعاتهم الاجتماعية.

يشير الدكتور روي بوميستر، أستاذ علم النفس في جامعة فلوريدا، إلى أن الجميع قادرون على القيام بأفعال قد يعتبرها آخرون شريرة أو عنيفة أو قاسية... ويقترح أن ما نعتبره غالبًا أفعالًا شريرة لا يُنفذ دائمًا بخبث، بل كأفعال مبررة من قبل منفذيها بناءً على ظروفهم أو معتقداتهم.


نسبية الخير والشر

تتضح نسبية الخير والشر عند فحص الأحداث التاريخية والمعاصرة. غالبًا ما تُبرر الأفعال التي يعتبرها البعض شريرة من قبل من يرتكبها باعتبارها ضرورية أو حتى صالحة... على سبيل المثال، اعتُبرت هجمات 11 سبتمبر مهمة مقدسة من قبل منفذيها، بينما رأت الولايات المتحدة والغرب في الأعمال العسكرية في العراق وأفغانستان نضالاً من أجل الحرية والعدالة، رغم أن البعض الآخر رآها أعمالًا عدوانية وشريرة.

اعتُبرت هجمات 11 سبتمبر مهمة مقدسة من قبل منفذيها


تمتد هذه النسبية أيضًا إلى المستوى الشخصي، حيث قد ينفذ الأفراد أفعالًا يعتقدون أنها مبررة، فقط ليعيدوا النظر في أخلاقيتها لاحقًا... هذا الأمر يبرز الديناميكية التي تجعل الحكم الأخلاقي معقدًا، حيث لا يعتبر الخير والشر مطلقين، بل يتحدد كل منهما غالبًا وفق المنظور والسياق.

بالإضافة إلى ذلك، طرحت وجهات النظر الفلسفية مثل تلك التي عبر عنها الفيلسوف الإغريقي أبيقور أسئلة حول وجود الشر في عالم يحكمه إله كلي القدرة والخير. طرح أبيقور معضلة لا تزال قائمة حتى اليوم: إذا كان الله قادرًا على منع الشر ولكنه لا يفعل، فلماذا يوجد الشر؟ يشير هذا التناقض إلى أن فهمنا للخير والشر قد يكون غير مكتمل.


التأملات الحديثة و"المناطق الرمادية" في الواقع

في المجتمع المعاصر، تستمر فكرة الثنائية في تشكيل فهمنا للأخلاق والعدالة والجمال.. ومع ذلك، فإن التمييز الواضح بين الخير والشر، النور والظلام، يتعرض للتشكيك بشكل متزايد... في عالم مليء بالصراعات العالمية والنضالات السياسية والقضايا الاجتماعية المعقدة والمتعددة الأوجه، غالبًا ما يكون النهج الثنائي البسيط غير كاف.

على سبيل المثال، في مجال السياسة الدولية، يمكن أن تُعتبر الإجراءات التي تتخذها الدول أو القادة إما عادلة أو غير عادلة، حسب الزاوية التي تنظر منها إليها... ما يعتبره طرف ما كفاحاً من أجل الحرية والعدالة، قد يراه الطرف الآخر عملًا عدوانيًا أو استبداديًا... تبرز هذه النسبية حدود التفكير الثنائي وتؤكد الحاجة إلى فهم أكثر دقة لأفعال البشر ودوافعهم.

تظهر الفروق في السلوك الاجتماعي بين السكان في أجزاء مختلفة من العالم أيضًا هذه التعقيدات. على سبيل المثال، يقترح البروفيسور ستيفان هارناد من جامعة كيبيك في مونتريال أن الإيثار يزدهر في المجتمعات التي يتم فيها تلبية الاحتياجات الإنسانية الأساسية، مثل بلدان شمال أوروبا. في المقابل، تعاني المجتمعات ذات الموارد الشحيحة والكثافة السكانية العالية من مستويات أعلى من الجريمة والظلم، حيث يؤدي الصراع من أجل البقاء إلى أفعال يُنظر إليها على أنها شريرة.

تعاني المجتمعات ذات الموارد الشحيحة والكثافة السكانية العالية من مستويات أعلى من الجريمة

في المحصلة

الثنائية بين النور والظلام، الخير والشر، متجذرة بعمق في الثقافة الإنسانية، تشكل فهمنا للعالم ومكانتنا فيه. بينما تقدم الأساطير القديمة والروايات الدينية تقسيمًا واضحًا بين هذه القوى... يتحدى العلم الحديث والفلسفة هذه الرؤية المبسطة، بالكشف عن تداخل معقد بين النور والظلام – والخير والشر. ومع استمرارنا في استكشاف هذه المفاهيم، ندرك صعوبة تقسيم العالم إلى أبيض وأسود؛ فهو طيف من الظلال والتدرجات، حيث يتعايش النور والظلام ويعرفان بعضهما البعض في توازن دقيق... فهم هذا التعقيد يسمح لنا بالتنقل بشكل أفضل بين التحديات الأخلاقية التي نواجهها في عصرنا، مع إدراك أن الخير والشر ليسا مطلقين، بل هما غالبًا جوانب متشابكة من التجربة الإنسانية.


Sunday, August 11, 2024

السفر عبر الزمن: بين العلم والخيال وأفلام السينما


من أين نبدأ

لطالما أسر السفر عبر الزمن خيال البشر... من الأساطير القديمة التي تتحدث عن الآلهة التي تتلاعب بالزمن إلى النظريات العلمية الحديثة والتجسيدات الحية في الأدب والسينما، عامل الجذب في مفهوم الانتقال عبر الزمن يرتبط بما يحمله من قدرة على تجاوز الحياة اليومية، مما يتيح لنا رؤية لمحات من الماضي البعيد أو المستقبل.

 

السفر عبر الزمن في العلم: نظريات وفرضيات

قد يبدو السفر عبر الزمن مفهومًا محصورًا في الخيال العلمي، لكنه أيضًا موضوع لدراسة علمية جادة. هنا نستعرض بعضًا من النظريات البارزة التي تشير إلى أن السفر عبر الزمن قد يكون أكثر من مجرد خيال.

 

-نظرية النسبية لآينشتاين: غيرت نظرية النسبية العامة لألبرت أينشتاين فهمنا للزمن؛ حيث اقترح أن الزمن ليس ثابتًا، بل يمكن تمديده أو ضغطه حسب السرعة وقوى الجاذبية المؤثرة. هذه الظاهرة، المعروفة باسم "تمدد الزمن"، توحي بأنه يمكن للشخص السفر إلى المستقبل إذا اقترب من سرعة الضوء. وقد دعمت تجربة "هافيلي-كيتينغ" هذا المفهوم، حيث أظهرت أن الزمن يتباطأ بالفعل للأجسام المتحركة بسرعة عالية.

-الثقوب الدودية: افترض الفيزيائيون النظريون وجود الثقوب الدودية، وهي ممرات مختصرة عبر نسيج الزمكان يمكن أن تربط بين نقاط بعيدة في الزمان والمكان. تشير هذه الجسور، والمعروفة أيضًا بجسور أينشتاين-روزين، إلى احتمال مثير: السفر عبر الزمن. ومع ذلك، يبقى السؤال مفتوحًا حول ما إذا كانت الثقوب الدودية موجودة بالفعل، وإذا كانت كذلك، فهل يمكن أن تكون مستقرة بما يكفي لمرور الإنسان؟

-الأوتار الكونية: يمكن لهذه العيوب أحادية الأبعاد الافتراضية في نسيج الزمكان أن تتيح، من الناحية النظرية، السفر عبر الزمن. إذا مر وتران كونيان بالقرب من بعضهما البعض، فقد يشكلان حلقة زمنية تتيح السفر إلى الماضي أو المستقبل. على الرغم من أن هذه الفكرة تبدو خيالية، إلا أنها تنبع من الإمكانيات المثيرة التي تقدمها نظرية الأوتار، التي تقترح أن الكون قد يكون له أبعاد أكثر مما ندركه حاليًا.

-ميكانيكا الكم: تفتح النظريات الكمومية بابًا آخر لإمكانية السفر عبر الزمن... تشير مفاهيم مثل "التشابك الكمي"، حيث تظل الجسيمات مرتبطة عبر مسافات شاسعة، وتفسير "العوالم المتعددة" إلى احتمال أن الزمن، كما هو الحال مع المكان، قد لا يكون خطيًا كما ندركه. توحي هذه الأفكار بأن المعلومات، وربما حتى الأشياء، يمكنها الانتقال إلى الماضي أو المستقبل في ظل ظروف معينة، على الرغم من أنها تظل إلى حد كبير نظرية.


التبعات الفلسفية

يطرح مفهوم السفر عبر الزمن أسئلة فلسفية عميقة. على سبيل المثال، "مفارقة الجد" الشهيرة تتحدى فهمنا للسببية: الفكرة التي تقول إنه إذا سافر شخص ما إلى الماضي وقتل أحد أجداده قبل أن يتمكن من إنجاب طفل، فإنه بذلك يهدد وجوده هو شخصياً... لكن إذا تمكن مسافر عبر الزمن من تغيير الماضي، ماذا سيحدث للمستقبل؟ هل يمكننا تغيير التاريخ دون عواقب كارثية؟ هذه المفارقات لا تثير اهتمام العلماء فقط، بل تقدم أيضًا مادة غنية للفلاسفة الذين يستكشفون طبيعة الزمن والإرادة الحرة والمصير.


 

نظام تحديد المواقع العالمي: مسافر زمني يومي

يقول البروفيسور سيث لويد، خبير الميكانيكا الكمومية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في بوسطن، إن السفر عبر الزمن هو شيء نعيشه يوميًا—وإن لم يكن بشكل مباشر. في الواقع، فإن الأقمار الصناعية التي تشارك في عمل منظومة GPS هي التي تسافر عبر الزمن نيابة عنا. إذ تدق ساعاتها المدمجة بمعدل أسرع بنحو 38 ميلي ثانية (38 جزء من ألف من الثانية) يوميًا مقارنةً بنظيراتها على الأرض. هذه الظاهرة هي نتيجة مباشرة لنظرية النسبية لأينشتاين، لا سيما اثنين من مبادئها الأساسية.

 

العودة إلى الماضي

من الناحية النظرية، الانتقال إلى الماضي ممكن... لإثبات ذلك، يبحث بعض العلماء في فكرة المرور عبر ثقب أسود، بينما يدرس آخرون جسور آينشتاين-روزين... وهناك من يحاول تجاوز سرعة الضوء... هذه مجرد فرضيات—على الأقل في الوقت الحالي—ولم تؤد بعد إلى نتائج جديرة بالذكر.

لكن ماذا عن تجاوز سرعة الضوء؟ التحدي النهائي من بين أكثر المفاهيم جرأةً للسفر عبر الزمن، فكرة تجاوز سرعة الضوء—وهي عتبة، وفقًا لنظرية النسبية لأينشتاين، يجب أن تكون مستحيلة... ولو تمكن أحد من الحركة بما يفوق سرعة الضوء، سيبدأ الزمن بالسير في الاتجاه المعاكس – باتجاه الماضي؛ على الأقل، هذا ما يعتقده عدد من العلماء... لكن وفقًا للنسبية، كلما اقترب جسم ما من سرعة الضوء، زادت كتلته بشكل متضاعف، مما يتطلب المزيد والمزيد من الطاقة للاستمرار في التسارع... هذا يعني أنه للوصول إلى سرعة الضوء أو تجاوزها، سنحتاج إلى طاقة لا نهائية، ولهذا السبب يُعتبر ذلك مستحيلًا وفقًا لفهمنا الحالي للفيزياء.

للالتفاف على هذه المعضلة، اقترح بعض الفيزيائيين النظريين أفكارًا مثل "التاكيونات"، وهي جسيمات افتراضية تسافر أسرع من الضوء... إذا كانت هذه الجسيمات موجودة، فستكون ذات كتلة تخيلية ويمكن أن تتحرك نظريًا إلى الوراء في الزمن... مفهوم آخر يتضمن ما يعرف بـ Warp Drive أو "محركات الالتفاف"، المستوحاة من نظرية محرك ألكوبيير، التي تقترح أن الزمكان نفسه يمكن التلاعب به للسماح بالسفر بسرعة تتجاوز سرعة الضوء دون انتهاك قوانين الفيزياء. يتضمن ذلك تقليص الزمكان أمام المركبة وتوسيعه خلفها، مما يعني "تحريك" الزمكان بدلًا من تحريك المركبة نفسها. على الرغم من أن هذه الأفكار ما زالت في نطاق الافتراضات النظرية، إلا أنها تفتح إمكانيات مثيرة للاهتمام لمستقبل اختراقات تكنولوجية في السفر عبر الزمن.

 

السفر عبر الزمن في الخيال العلمي

لطالما كان الخيال العلمي أرضًا خصبة لاستكشاف إمكانيات ومفارقات السفر عبر الزمن. من خلال عدسته الخيالية، يمكننا استكشاف سيناريوهات تتحدى فهمنا للواقع والطبيعة البشرية. هذه بعض الأعمال الرئيسية التي شكلت هذا النوع الأدبي:

آلة الزمن لــ ه. ج. ويلز

نُشرت هذا الرواية في عام 1895، ويُعزى إليها الفضل في نشر مفهوم السفر عبر الزمن في الأدب... القصة، التي كانت في البداية تهدف إلى تقديم تحليل نقدي للمجتمع الفيكتوري، هي قصة مخترع يصنع آلة قادرة على التنقل عبر الزمن، قدمت للقراء فكرة استكشاف المستقبل البعيد، وأرست الأساس لعدد لا يحصى من الروايات التي تتناول السفر عبر الزمن... وما بدأ كعمل أدبي تطور سريعًا إلى هوس عميق أثر بشكل كبير على البحث العلمي في السنوات التالية... ورغم أن أحدًا لم ينجح بعد في بناء آلة زمن تعمل بالفعل، فإن العديد من العلماء البارزين يشيرون إلى أننا قد نكون أقرب إلى تحقيق هذا الإنجاز أكثر من أي وقت مضى.


 نهاية الأبدية لـ إسحاق أسيموف

في هذه الرواية التي نُشرت عام 1955، يستكشف أسيموف مجتمعًا يستخدم فيه السفر عبر الزمن للتلاعب بالتاريخ بهدف خلق مستقبل مثالي... التحديات الأخلاقية والمعنوية التي يطرحها هذا النوع من القوة هي محور القصة، مما يجعلها استكشافًا عميقًا لتبعات تغيير الزمن.


 المسلخ رقم خمسة لـ كورت فونيغوت

تجمع رواية فونيغوت التي نُشرت في عام 1969 بين الخيال العلمي واستكشاف الحالة البشرية، حيث تتناول بطلًا يصبح "غير مثبت في الزمن". يواجه الكتاب هيكلًا سرديًا غير خطي يتحدى التقليدي، ويقدم تعليقًا مؤثرًا على طبيعة الحرب والصدمات وإدراك الزمن.


 زوجة المسافر عبر الزمن لـ أودري نيفينيغر

تقدم هذه الرواية التي نُشرت في عام 2003 نظرة فريدة عن السفر عبر الزمن، حيث تركز على الآثار العاطفية والعلاقات لرجل ينتقل عبر الزمن بشكل لا إرادي. يبرز المزج بين الرومانسية والخيال التأملي في القصة العواقب الشخصية لحياة تعاش خارج التسلسل الزمني.


 


السفر عبر الزمن في السينما: إنجاز المهمة الصعبة على الشاشة

جعلت السينما من مفهوم السفر عبر الزمن تجربة حية، مقدمة للجمهور تجربة بصرية وعاطفية للسفر عبر الزمن. هذه بعض من أكثر الأفلام تأثيرًا في هذا الموضوع:

 

-العودة إلى المستقبل "Back to the Future" (1985): إخراج روبرت زيميكس، يعد هذا الفيلم حجر زاوية في الثقافة الشعبية. مزيجه من الفكاهة والمغامرة وتعقيدات تغيير الجداول الزمنية جعله عملاً كلاسيكًا محبوبًا، حيث يستكشف فكرة أن التغييرات الصغيرة في الماضي يمكن أن يكون لها تأثيرات كبيرة في المستقبل.



-المدمر "Terminator" (1984): قدم فيلم جيمس كاميرون فكرة استخدام السفر عبر الزمن كأداة في معركة بين الإنسان والآلة... يتناول الفيلم فكرة القدر والمصير وتأثيرات تغيير الماضي على المستقبل، من خلال قصة قاتل سايبورغ أرسل لمنع ولادة زعيم المقاومة في المستقبل.



-لوبر "Looper" (2012): يعرض فيلم ريان جونسون رؤية مظلمة للمستقبل حيث تستخدم المنظمات الإجرامية السفر عبر الزمن للتخلص من الأشخاص... تتناول الحبكة التحديات الأخلاقية والمعنوية لهذه الممارسة، مما يخلق سردًا مشوقًا ومثيرًا يستكشف التكلفة الشخصية للسفر عبر الزمن.



-كوكب القردة Planet of the Apes (1968): يسافر طاقم من الرواد على متن سفينة فضائية لفترة طويلة جدًا لدرجة أنهم عندما يهبطون على كوكبنا تكون قد مرت قرون، وربما آلاف السنين، فيما كانت قد مرت بضع سنوات فقط من منظورهم. هذا السيناريو ممكن تقنياً، لأنه، من الناحية النظرية، يتطلب "فقط" استثمارًا في تطوير صواريخ فائقة السرعة ذات قدرة طيران شبه غير محدودة.



-12 قردًا "12 Monkeys" (1995): يقدم هذا الفيلم الذي أخرجه تيري جيليام استكشافًا نفسيًا واجتماعيًا لتأثيرات السفر عبر الزمن. تروي القصة حكاية رجل أرسل إلى الماضي لمنع كارثة عالمية، مما يمزج بين عناصر الغموض والديستوبيا (المدينة الفاسدة) والدراما النفسية، مما يجعله فيلمًا بارزًا في هذا النوع.



-برايمر Primer (2004): يُعد فيلم شين كاروث ذو الميزانية المنخفضة مفضلًا لدى عشاق السفر عبر الزمن نظرًا لتصويره الواقعي والمعقد للسفر عبر الزمن... تجعل الحبكة المعقدة والاهتمام بالتفاصيل العلمية من الفيلم تحديًا، لكنه ملائم للمشاهدين المهتمين بآلية السفر عبر الزمن.

 

 

الرأي الديني حول إمكانية السفر عبر الزمن


إلى جانب الأوجه العلمية والخيالية للسفر عبر الزمن، يطرح هذا المفهوم تساؤلات دينية حول إمكانيته وتأثيره على العقائد الروحية. تختلف آراء الأديان حول مفهوم الزمن وإمكانية التنقل فيه:

 

اليهودية والمسيحية: في كل من اليهودية والمسيحية، يُعتبر الزمن جزءًا من خطة إلهية كبرى... يُرى الزمن كخط مستقيم يتجه نحو هدف نهائي يتجلى في الخلاص أو النهاية الزمنية... بينما لا توجد إشارة مباشرة إلى السفر عبر الزمن، فإن الروايات الدينية التي تتناول النبوءات والرؤى تُظهر اهتمامًا بالتحكم الإلهي في الزمن، مما يجعل السفر عبر الزمن شيئًا قد يكون خارج نطاق الإمكانيات البشرية، لكنه ليس مستحيلًا بإرادة الإله.

 

الإسلام: في الإسلام، يُعتبر الزمن مخلوقًا من الله وهو يسير في اتجاه واحد.. يؤمن المسلمون بأن الله هو الوحيد الذي يعرف الغيب ويملك القدرة على التحكم في الزمن... على الرغم من أن السفر عبر الزمن كما نراه في الخيال العلمي غير مذكور في النصوص الإسلامية، إلا أن هناك إشارات في القرآن إلى أحداث خارقة للطبيعة تتعلق بالزمن، مثل قصة أهل الكهف الذين ناموا لعدة قرون... مما قد يشير إلى أن التحكم في الزمن هو أمر إلهي وليس من صلاحيات البشر.

 

البوذية: في البوذية، يُنظر إلى الزمن كجزء من دائرة الحياة والتجدد (السامسارا). بينما لا تركز البوذية على السفر عبر الزمن بالمعنى التقليدي، إلا أن مفهوم العودات (التناسخ) يمكن أن يُعتبر نوعًا من التنقل عبر الزمن من خلال الولادات المتعددة... البوذية ترى الزمن كشيء غير ثابت وغير حقيقي، مما يفتح الباب للتفكير في إمكانية وجود عوالم أخرى أو حالات من الوعي حيث يكون الزمن مختلفًا عما نعرفه.

 

تتناول هذه الأديان الزمن من منظور روحي وفلسفي، وتعتبره جزءًا من نظام كوني معقد يفوق الفهم البشري... بينما تختلف العقائد حول إمكانية السفر عبر الزمن، فإن معظمها يراه كأمر يتجاوز الإمكانيات البشرية، تاركةً التحكم في الزمن للإرادة الإلهية أو كجزء من دائرة الحياة والوجود.

 

السحر اللامتناهي للسفر عبر الزمن

يظل السفر عبر الزمن واحدًا من أكثر المفاهيم المثيرة في كل من العلم والخيال. بينما يواصل الفيزيائيون والفلاسفة بحثهم في إمكانياته النظرية، يجلب المؤلفون والفنانون الحياة لهذا المفهوم بطرق تتحدى فهمنا للزمن والواقع، سواء كان ذلك من خلال الاستقصاء العلمي الدقيق أو الخيال الإبداعي اللامحدود، فإن السفر عبر الزمن يقدم إمكانيات لا نهائية للاستكشاف والمعرفة.

إياد أبو عوض

 

معضلة الزمن.. التكنولوجيا كمعيار لمرور السنين في أعمارنا

إنه بالفعل أمر مثير للدهشة وفي الوقت ذاته مربك إلى حد كبير؛ أن ندرك أن بعض الناس الذين نعرفهم ونتعامل معهم اليوم ليست لديهم أي معرفة بالمعال...