Sunday, July 7, 2024

مفهوم الحياة.. بين يقين الواقع وشكوك الخيال

الأديب الأرجنتيني الشهير خورخي لويس بورخيس (1899-1986) كتب في قصته القصيرة "الأطلال الدائرية" (The Circular Ruins) حكاية ساحر من مدينة باختر القديمة (حالياً تقع بين أفغانستان وطاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان). يصل الساحر على متن زورق إلى أطلال معبد قديم محترق؛ يقبع في وسط المعبد تمثال لإله غامض.

يغط الزائر في نوم عميق فور وصوله، إذ كانت في ذهنه خطة محددة وهدف كبير يريد تحقيقه: أن يحلم بإنسان بكل تفاصيله وبصورة دقيقة جداً، ثم يخرجه من عالم الأحلام لكي يتحول إلى جزءٍ من الواقع... يقضي الرجل معظم وقته غارقًا في الأحلام بين الأطلال.

بعد محاولات مختلفة، يبدأ الساحر الحلم بشخص قطعةً بقطعة، مبتدئًا بالقلب، ثم ينتقل إلى تشكيل باقي الأعضاء والسمات والمواصفات الجسدية. العملية تستغرق أكثر من عام وتكون شاقة للغاية؛ يصلي إلى كل آلهة الأرض، لكن بلا جدوى، ولذلك يلقى بنفسه عند قدمي إله المعبد، الذي يتجلى له في الحلم كإله متعدد الأوجه يُدعى "النار".


يتعهد الإله "النار" للساحر بأنه سيحول المخلوق الحلم إلى حقيقة، وأن الجميع، باستثناء "النار" والساحر نفسه، سيعتقدون أن ذلك الشخص فعلاً من لحم ودم. لكن "النار" يشترط أن يتم إرسال الرجل المخلوق من عالم الأحلام إلى معبد آخر مهجور يُمجِد فيه الإله هناك. يمضي الساحر سنتين في تعليم المخلوق، الذي أصبح يعتبره مثل ابنه. وعلى الرغم من خوفه من الفراق، يلتزم بالاتفاق ويُرسل ابنه إلى المعبد الآخر، ولكنه قبل ذلك يمحو ذاكرته حول عملية تدريبه وتعليمه، لكي لا يعرف أبدًا أنه مجرد طيف، ولكي يكون إيمانه ثابتاً بأنه إنسان كبقية البشر.

يبقى الساحر في معبده ويتلقى أخبارًا عن ابنه من المسافرين، الذين يروون أن الابن قادر على السير فوق النار دون أن يُصاب بأذى.. وبالرغم من شعوره بالفخر بما حققه ابنه الطيف في حياته، فهو يحمل في قلبه أملًا بأن يظل ابنه على جهله بحقيقته ليعيش حياة سعيدة، ولا يكتشف أنه مجرد إسقاط لأحلام رجل آخر.

في غضون ذلك، تشتعل النيران في الغابة المحيطة بأطلال المعبد حيث يقطن الساحر، فيستسلم لمصيره، ويدرك أنه سيموت لا محالة، فيقرر أن يدخل النيران بنفسه لينهي حياته، يشعر بسلام داخلي يغمره، لكنه لا يشعر بأي ألم، ليدرك "بمزيج من الراحة والذل والرعب" أنه هو أيضًا لم يكن حقيقياً؛ بل مجرد طيف، حلم به شخص آخر.

في النهاية، تتبدد كل الأوهام ويظل السؤال الأبدي عالقًا في ذهن القارئ: من هو الحالم ومن هو الحلم؟ وهل نحن جميعًا مجرد أطياف في حلم كبير لا نهاية له؟ أسئلة تدفعنا للتأمل بشكل عميق في طبيعة الوجود والحقيقة.

قصة "الأطلال الدائرية" ليست مجرد حكاية عن ساحر وأحلامه، بل هي رحلة في عوالم العقل والنفس، تسافر بنا عبر الزمان والمكان، وتدعونا للتأمل في ماهية الحقيقة والخيال، في دائرة لا تنتهي من الأفكار والتساؤلات.

 

No comments:

Post a Comment

معضلة الزمن.. التكنولوجيا كمعيار لمرور السنين في أعمارنا

إنه بالفعل أمر مثير للدهشة وفي الوقت ذاته مربك إلى حد كبير؛ أن ندرك أن بعض الناس الذين نعرفهم ونتعامل معهم اليوم ليست لديهم أي معرفة بالمعال...