Sunday, October 19, 2014

الروح.. ما هي؟

لطالما تساءل الإنسان عما يتبع الموت.. وعن إمكانية الخلود بعده.. هل الروح موجودة بالفعل؟ وإن كان لها وجود، ما هي وكيف يمكننا تعريفها؟ هناك من يؤكد وجودها لأسباب دينية أو ثقافـية أو حتى تاريخية، وهناك من ينفي ذلك بالقطع.. أسئلة دينية، فلسفية، علمية لا يزال الجدل بشأنهـا قائماً حتى اليوم.. لكن حتى من يرفض فكرة الروح وفق المفهوم الذي تشير إليه أديان كثيرة، لا يستبعد أن المقصود بها شيء آخر.. مختلف عما يعنيه الناس وما اعتادوا الحديث عنه.

في القاموس المحيط، كلمة الرُّوحُ تعني "ما به حَياةُ الأَنْفُس".. وفي قاموس ميريام وبستر، تعرف كلمة روح Soul على أنها "القسـم اللامادي من الإنسان والذي يجعل الجسد يتمتع بالحياة، وفي بعض الأديان يُعتقد أنها تعيش إلى الأبد".. وهناك من يعتبرها جزءاً منفصلاً عن الجسم، يفارقه عند الموت المادي.. لكن ما هو أصل هذا المصطلح؟ ومن أين جاء هذا المفهوم؟ الأصل جاء من ثلاثة جذور؛ الشامانية، الإيمان بعالم الأحلام، وأخيراً الإيمان بالحياة بعد الموت.. في رسوم الكهوف التي تعود لنحو 20 ألف عام، قام الشامانات (أو السحرة والكهنة الدينيون) بتمثيل رحلاتهم في عالم الأرواح.. عندما كانوا في حالة الغشية (أو Trance) كانوا يعتقدون أنهم يغادرون أجسادهم على هيئة روح، وكانوا يرسمون هذه الروح على صورة طير.. ومن هذه المعتقدات، نشأ المذهب الفكري – الديني المسمى الإحيائية؛ والتي هي الإيمان بأن أي كائن (سواء حي أو غير حي) يمتلك روحاً؛ وهذا يشمل الصخور والنباتات أيضاً.. أما فيما يتعـلق بعالم الأحلام، فإن العلماء يؤكدون أن الإنسان، ومنذ بدء التاريخ، كان يعتقد بأن ما يحدث في الحلم هو أن الروح تفارق الجسد وتتوجه إلى بُعد وجودي آخر، وأنها تحيا بذلك خبرات ومغامرات من نوع خاص وذات مغزى عميق.. وبالطبع هناك الإيمان بالحياة بعد الموت، والذي ظهرت أولى بوادره في أساليب الدفن التي اتبعها البشر الأوائل قبل التاريخ؛ حيث كان يوضع مع جسد الميت أدوات كان يعتقد بأنها مفيدة له في الحياة المقبلة.. هذه المعتقدات كانت سائدة أيضاً بين المزارعين في العصر الحجري الحديث (قبل 10 آلاف عام) إذ كانوا يشهدون دورة الحياة (نبات – بذور – نبات)، فظنوا أن الأمر نفسه ينطبق على الإنسان؛ ما دفعهم إلى دفن موتاهم في وضعية الجنين (الظهر منحني والرأس مقوسة والأطراف ملتفة ومشدودة نحو جذع الجسد)؛ وذلك انتظاراً لحياة قادمة تنتظر الميت.

الإيمان بالخلود بلغ ذروته لدى المصريين القدماء الذين اعتقدوا بدايةً أنه يقتصر على ملوك الفراعنة وعلية القوم، قبل أن يصبح اعتقاداً يخص كل أفراد الشعب.. الحياة ما بعد القبر كانت أمراً يقـينياً لا يحتمل الشك، حتى أن الفراعنة قاموا بالكتابة عنه بشكل دقـيق مفصّل في "كتاب الموتى" الشهير.. كان بإمكان المتوفين الانتقال إلى الآخرة فقط بعد أن يقوموا بإعلان عدم خرقهم أي من الأسس الأخلاقية؛ بأن يقولوا إنهم لم يسرقوا ولم يقتلوا ولم يمنعوا رغيف خبز عـن فقير.

الصـقر الأبـدي
في مصر القديمة، كانت الروح تسمى "بـا" BA وكانت تمثل على شكل صقر برأس إنسان..
وكان البـا يغادر جـسد الإنسان لحظة الموت ويطير باتجاه السماء..
وكان يُعتقد أنه يعود من وقت لآخر ليزور جسده الميت.


يؤكد جون بوكر أستاذ تاريخ الأديان في عدد من الجامعات منها كامبريدج البريطانية وبنسلفانيا الأمريكية في كتابه "معاني الموت" أن اليهود في بداية تاريخهم لم يؤمنوا بأبدية الروح وخلودها، إذ كان ربهم ياهوه يعدهم بتحسين حياتهم الحالية بدلاً من الحديث عن تعويضٍ ما في حياة قادمة.. وبقي الأمر على هذا الحال حتى فترة الأسر البابلي، إذ ظهرت فكرة الخلود والحياة الثانية كمبدأ يسمح بتعويض الصالحين عما عانوه في هذه الحياة.
أما في المعتقدات الشرقية، فالروح لها وضع مختلف بعض الشيء؛ فالهندوس يؤمنون بأنها جزء من البراهما الذي هو الأصل المطلق العالمي، وأنها تبقى أسيرة السامسارا (الذي يعني بالسنسكريتية "التدفق المستمر") والذي يتمثل بدورة الحياة والموت والعودة للحياة مرة أخرى؛ أي مبدأ استنساخ الأرواح... في حين أن البوذية رأت في هذه الدورة المستمرة مصدراً للأمنيات المتواصلة التي لا تتحقق وللمعاناة التي لا تنتهي، لهـذا تم ابتداع مفهوم النرفانا، التي تسمح بخروج الروح من تلك الدورة، ويعني الوصول إليها تحقيق حالة الإلغاء الكامل؛ ففيها لا توجد معاناة ولا مشاعر إيجابية أو سلبية.
في المفهوم المسيحي، كان هناك نقاش بشأن الجسد والروح استمر لفترة طويلة، إذ كان المصطلح الأساسي في هذا الشأن هو بعث الموتى (مثل ما حدث فيما يتعلق بقيامة المسـيح بعد موته)؛ إذ كان المتعارف عليه هو أن قيامة الميت تأتي بصورة مادية، أي أن جسده يرجع إلى حالته التي سبقت الموت ويعود إلى الحياة كما كان.. وكان توما الأكويني مثـلاً قد حدد المبدأ المسيحي بتأكيد وحدة الروح والجسد وأن أحدهما لا يمكن أن يكون من دون الآخر.. ليدخل بعد ذلك مفهوم الروح بالصورة المعروفة اليوم إلى الديانة المسيحية من المدرسة الإغريقية، حيث أصبحت الروح أمراً خالداً كان موجوداً قبل الولادة وسيستمر في الوجود بعد الموت؛ بالعودة للاتحاد مع جسد الميت عندما تحين ساعة قيامته.. وهذه رؤية أخذتها المدرسة الإسلامية واعتمدتها؛ إذ قال ابن تيمية إن "الروح عين قائمة بنفسها، تفارق البدن، وتنعم، وتعذب، ليست هي البدن، ولا جزء من أجزائه".
لكن كل هذه المعلومات جاءت من مصدر واحد: ديني غيبي لا مجال لنفيه أو إثباته.

 في الأعلى، رسـم "الجنة، صـعود المباركين" الذي يعود للعـام 1500 تقريباً،
وهو جزء من رسومات "رؤى من الآخرة" للفنان الهولندي هيرونيموس بوش..
في اللوحة تظهر الأرواح وهي تصـعد باتجـاه مملكة الرب، حيث النور والجمال الخـالد..
في الأسفل، رسم (ظهر في إحدى المطبوعات التي تعود للقرن السابع عشر) يظهر الموت
وهـو ينهي حـياة شـخص ما في حين تخرج منه روحه لتلتحق بالملائكة.

وبالرغم من كل ما تقدم، من غير الممكن تحديد ماهية الروح لأن الأمر يختلف باختلاف من يقوم بتعريف الروح؛ رجال دين، فلاسفة، علماء نفس، مثقفون.. هناك من يؤكد أن الروح هي كل ما يشكل شخصية الفرد وطباعه وخصاله وأنها هي التي تجتمع فيها ذكرياته ومشاعره وأحلامه وخبراته، في حين هناك من يقول إن كل هذه الأمور مركز وجودها هو الدماغ وأن كلمة الروح هي الكلمة التي اختارهـا القدماء للتعبير عن كل القدرات الخارقة التي لم يتمكنوا من تحديد مصدرها، كالإبداع والابتكار والتفكير والوعي بالذات وبالمحيط البيئي وبالروابط الخاصة التي تتمثل بالعلاقات الأسرية والشخصية.. وفي الوقت الذي يؤكد فيه أصحاب الفكر الديني أن الروح خالدة تتجاوز الموت البدني، يصر أصحاب الفكر العلمي على تأكيد أن ما يعرف بالروح (وهو الدماغ في هذه الحالة) يموت بموت الجسد وينتهي بانتهاء حياة الفرد.. علماء النفس بدورهم يرون أن الروح هي مجموع الوعي واللاوعي للإنسان وأنها تتحكم بمشاعره وأحاسيسه وإدراكه، وبذلك فهي تسمح لنا بمعرفة الفرق بين البرد والدفء، وبين المتعة والألم.. الخلافات الرئيسية تبدأ بالظهور بين المدارس المختلفة عند طرح أسئلة مهمة من قبيل: "متى تولد الروح؟" و"متى وكيف يمكننا التواصل معها؟"

الحـياة الآخرة.. وفق تصـورات مختلفة
إلى اليمين، صـعود الأرواح المباركة السعـيدة إلى الجـنة بالمفهوم المسـيحي وفق ما تصورها
الفنان الفرنسي غوستاف دوري اعتماداً على ما جـاء في كـتاب الكوميديا الإلهية لدانتي أليغييري.
إلى اليسـار، يظـهر الرسـم الذي يعود إلى أصـول إيرانية السـموات السـبع والجنان السـبع
وفق المفهوم الإسـلامي.. هذا الرسم موجـود في المكتبة الوطنية في العاصـمة الفرنسية باريس.

وماذا عـن حوادث الخروج من الجسد التي يبلغ عنها أشخاص كانوا خاضعين لعمليات جراحية؟ وماذا عن تجارب الاقتراب من الموت التي يتحدث عنها بعض من كان في غيبوبة؟ الحقيقة التي يؤكدها علماء الأعصاب والمتخصصين بمجال عمل الدماغ أن حالات كثيرة مصدرها غياب قدرة الدماغ على تجميع معلومات عـن الظروف والمؤثرات المحيطة، وفي بعض المرات يكون عدم وصول كميات كافية من الأكسجين إلى الدماغ هو السبب في الضعف التدريجي في أداء الجهاز العصبي لوظائفه تدريجياً، ما يجعل الدماغ يترجم الوضع بهذه الصورة، في حين أن دراسات كثيرة أظهرت أن مادة الكيتامين التي تستخدم في التخدير السابق للعمليات الجراحية مسؤولة عن الكثير من أوهام الخروج من الجسد وتجارب الاقتراب من الموت التي يكثر الحديث عنها.


ضوء في نهاية النفق
نفق طويل في آخره مصدر ضوء قـوي.. وعلى الكتف، هناك يد توقف الشخص عن مواصلة
المسير باتجاه الضوء.. هذا عادةَ ما يرويه أشخاص فـي العالم الغربي عـندمـا يفيقـون من غـيبوبة.

الخـروج من الجسـد
خلال عملية جراحية مثلاً، يؤكد مرضى أنهم مروا بتجربة مغادرة أجسادهم ورؤية
كل ما يجري في غرفة العمليات من الأعلى، وتقديم بعض التفاصيل عما كان يجري في الغرفة.


ورود وأشـجار

بالنسـبة لمواطـني شـرق آسـيا الذين كانوا في غـيبوبة، فإن روايتهم تتعلق بعـبورنه
بين أشجار وورود جميلة، كما في هذا الرسم الياباني.. الثقافة تؤثر كثيراً على تصور الآخرة.