Friday, March 20, 2015

نظرية التطور .. النشـوء والارتقـاء

عدد شهر مارس 2015 من النسخة العربية من مجلة National Geographic صدر بعد أن قرر القائمون عليها في أبوظبي حذف ما يتعلق بنظرية التطور من الغلاف الذي كان عنوانه الرئيسي "حرب ضد العلم".. ليختاروا بذلك أن يكونوا مع الأشخاص المنضوين تحت راية الحلف المعادي للعلوم.

المقال التالي نشر في العدد رقم 25 من مجلة "آفاق العلم" والذي صدر عام 2009.


نظرية التطور .. النشـوء والارتقـاء

فسرت لنا كیف أنه من الممكن تطور أنظمة حیة معقدة من بدایات بسیطة جداً.. إلا أنھا أشعلت كذلك مواجھة كبیرة بین المؤسستین العلمیة والدینیة.


الفرضیة التي وضعھا داروین حول التطور في كتابه أصل الأنواع عام 1859 وجدت خلال قرن ونصف عدداً كبیراً جداً من الأدلة التي تثبت صحتھا.. ومع أن بعض الآلیات الرئیسیة التي یعمل وفقھا التطور لا تزال محل نقاش بین العلماء، فالأغلبیة الساحقة في الوسط العلمي تقبل النظریة كحقیقة علمیة مثبتة.. تفسیر الكیفیة التي تتحول فیھا الكائنات الحیة وتتبدل خلال ملایین السنین یعتمد على العوامل التالیة.



الانتقاء الطبیعی
كل كائن حي من أي نوع قادر على الحیاة لزمن طویل أو قصیر وفقاً للأسلوب الذي یكون فيه قادراً على التأقلم مع ظروف البیئة المحیطة به.. إذا كان جسمه قادراً على مقاومة الأمراض، وكان قادراً على العثور على غذائه وعلى التھرب من أعدائه الطبیعیین؛ فسیكون قادراً على الحیاة لفترة أطول.. وھكذا، كلما استمر نوعه في الحیاة لعدة أجیال، فسیطور مواصفات جسدیة أكثر فائدة له فیما یتعلق بالبقاء: أسنان حادة أكثر، أطراف أطول، بصر أكثر حدة، حاسة شم أقوى وغیرھا... في الطبیعة،
كلما عاش فرد ما زمناً أطول، كلما كان أكثر قدرة على التكاثر؛ ما سیؤدي إلى أن یبث إرثه الجیني من خلال صغاره  وخصوصاً الصفات المتعلقة بالقدرات الإیجابیة التي اكتسبھا خلال حیاته (كمقاومة الأمراض وامتلاك الأسنان الحادة).. ھذه العملیة التي تشمل اختیار الجینات الأفضل (وبالتالي الصفات الأكثر تطوراً) ھي جوھر مبدأ الانتقاء الطبیعي الذي یعمل على عدد كبیر جداً من الأفراد؛ وھكذا (خلال عشرات الملایین من السنین) یجعل من الممكن أن یحصل نوع معین على صفات جدیدة مفیدة... وفي بعض الحالات یجعل من الممكن ظھور أنواع جدیدة.

النیاندرتال كان نوعاً بشرياً منفصلاً عن الإنسان الحدیث... وقد اختفى تماماً قبل ما یقارب 30 ألف عام


بمقارنة جناح طیر بذراع الإنسان، من الممكن العثور على عدد من الأمور المتشابھة مع
أن الأسلاف المشتركین بین الطیور والبشر الزواحف بعیدون جداً من الناحیة الزمنیة.



الإرث الجینی
لو افترضنا أن الانتقاء الطبیعي ھو العامل الوحید في ھذه العملیة، فسیعني ھذا أن جمیع الكائنات ستتطور من دون توقف حتى یتم الوصول إلى حالة تجانس بین جمیع الكائنات الحیة؛ فالمواصفات الأفضل ستتحول، مع مرور الزمن، إلى المواصفات التي یمتلكھا الجمیع.. وبھذا ستتوقف عملیة التطور (إلا فیما یتعلق بالتأقلم مع التغیرات المناخیة).. كیف یمكننا إذاً تفسیر ھذا التنوع الكبیر في الكائنات الحیة؟ داروین، وبشكل خاص الداروینیون الجدد الیوم، یرون أن جزءاً كبیراً من ھذه العملیة یعتمد على الطفرات الجینیة.. في كل مرة یتم فیھا إنتاج الحیاة، تكون ھناك عملیة نسخ للإرث الجیني بكامله في حالة انقسام الخلیة أو عملیة مزج للإرث الجیني بین فردین كما في حالة التزاوج الجنسي.. وفي حالة المزج بین إرثین جینیین قد تقع بعض الأخطاء خلال العلمیة.. وأخطاء النسخ ھذه تسمى طفرات.
ھذه الطفرات تؤدي إلى ظھور اختلافات في جسد المولود كظھور إصبع إضافي في كل من یديه أو أن یكون أطول من والديه.. في معظم الحالات تتسبب ھذه الاختلافات في جعل حیاة القادم الجدید أكثر صعوبة ولھذا قد تؤدي غالباً إلى وفاته وبالتالي تمنعه من نقل إرثه الجیني إلى جیل جدید.. لكن في بعض الحالات، قد تكون تلك الاختلافات مفیدة.. وعند حدوث ھذا الأمر، فإنھا ستضیف شیئاً إیجابیاً إلى المولود ما یجعله قادراً على مواجھة تحدیات الحیاة بصورة أفضل؛ ما یعني أنه سیحیا لیتزاوج وینقل إرثه الجیني إلى أجیال قادمة.


تم العثور على أجزاء مختلفة من أنواع عاشت في الماضي لھا مواصفات بینیة: أي
بین الإنسان الحدیث وكائنات أقل تطوراً؛ ما یؤكد ما جاء به تشارلز داروین في نظریته






العزلة الجغرافية
لسنوات عديدة بعد داروین، كان الاعتقاد السائد ھو أن نوعاً جدیداً قد یظھر نتیجة تغیرات بطیئة وتدریجیة تطرأ على جینات حیوان ما.. إلا أن علماء حقل الوراثة الجینیة للشعوب Population Genetics مثل ثیودوسیوس دوبجانسكي  Theodosius Dobzhansky وإرنست مایرErnst Mayr  وھیو باترسون Hugh Patterson وجدوا أنه لخلق نوع حیواني جدید فإن فترة من العزلة ستكون مطلوبة.. العملیة تحدث عندما تبقى مجموعة من أفراد نوع ما معزولة بفعل حاجز جغرافي كأن تفصل میاه البحر جزءاً من المنطقة التي كان یعیش فیھا عن بقیتھا أو تحوُّل ذلك الجزء إلى جزیرة أو أن تتمدد رمال الصحراء لتغزو منطقة ما.. ومن الطبیعي أن تستمر المجموعة التي تم عزلھا في التبدل والتغیر؛ إلا أن تطورھا سیكون مختلفاً عن النوع الذي انفصلت عنه جغرافیاً لأن البیئة قد تكون مختلفة وبشكل رئیسي، لأن نقطة الانطلاق للإرث الجیني لتلك المجموعة ستكون مختلفة.. الأمر مشابه إلى حد ما لمجموعة من الكرات الملونة (الجینات) الموجودة في سلة كبیرة.. إذا قمت بنقل مجموعة من الكرات بصورة عشوائیة ووضعتھا في سلة أصغر؛ فنسبة الكرات ذات اللون الأحمر مثلاً ستختلف عما كانت عليه في السلة الأصلیة.. إذا كانت نسبة الكرات الحمراء ھي 27 % في السلة الكبیرة، فالنسبة ستختلف وقد تكون 24 %  أو 33 % في السلة الصغیرة.. ومن الجینات المختلفة، حتى بنسب بسیطة، تظھر اختلافات متفاوتة.. ھذه الظاھرة تسمى الانحراف الجیني أو Genetic drift.


التأثیر البیئی
كان العالم جان-بابتست لامارك یعتقد أن توارث الصفات المكتسبة أمر مؤكد.. ملخص ھذه الفكرة ھو أن ما یتم توریثه للأبناء لیس المواصفات التي تحددھا الجینات فقط؛ بل أیضاً تلك التي تحددھا البیئة أو الثقافة.
لفترة طویلة، رفض الداروینیون ھذه الفكرة؛ أما الآن فقد أكدت عدة أبحاث أنه من الممكن أن یتم توریث الصفات المكتسبة.. فما ثبت ھو أنه توجد ھناك تغیرات لا تحدث بصورة عشوائیة؛ بل أنھا ظھرت بسبب تأثیرات بیئیة معینة دفعتھا إلى الظھور.

في العام 1924 اكتشف عالم البالیوأنثروبولوجیا (أو علم الإنسان الآثاري) ریموند دارت Raymond Dart  جمجمة ما سمي
بـ  Taung Childالذي كان أول سلف من أسلاف الإنسان یتم العثور عليه في افریقیا، حیث عاش في فترة ما قبل ملیونین
ونصف الملیون عام.. وكان ھذا أول دلیل على أن قصة الإنسان بدأت من القارة السوداء.

بسبب الدقة التي وصفت بھا تطور الحیاة على كوكبنا عبر التاریخ، أصبحت نظریة داروین أحد الأسس التي یعتمد علیھا لیس فقط علماء الأحیاء والتاریخ الطبیعي؛ بل حقول مختلفة من العلوم والأبحاث.. ففي مجال الكمبیوتر، تم استخدام ما یسمى Evolutionary Algorithms  فیما یتعلق بالانتقاء الصناعي مثلاً.. كذلك ھناك اعتماد كبیر في مجال علم الفلك على الأفكار الدراوینیة فیما یتعلق بحیاة النجوم والمجرات.. أما علم الفیزیاء الفلكیة، فھو یعتمد على ذات الأفكار في التوصل إلى حقائق حول أصل الكون، وكیفیة تكون المجموعة الشمسیة والكواكب ومنھا الأرض.. ھناك أیضاً تلازم واضح بین التطور وكل من العلوم الكیمائیة والفیزیائیة وعلم الاجتماع.
أخیراً، نظریة داروین لیست جامدة كما یعتقد البعض؛ فقد "تطورت" ھي أیضاً على مدى السنوات الماضیة؛ إلا أنھا دائماً أثبتت أن الأسس التي تعتمد عليها صحیحة.




نظریة التطور لداروین وما تحمله من أفكار حول تطور جمیع الأحیاء خلال ملیارات السنین، بما في ذلك تطور الإنسان عن كائنات دنیا؛ كل ھذا أدى إلى تصادم لا مفر منه مع الأدیان (خصوصاً الیھودیة والمسیحیة والإسلام) التي تحمل كتبھا المقدسة روایات حول الخلق وبدء الحیاة... فوفقاً لھذه الدیانات، خلق الرب الإنسان والكون وكل شيء حي في ستة أیام (في الروایتین المسیحیة والیھودیة، الرب خلق الإنسان على صورته في الیوم السادس ثم خلد إلى الراحة في الیوم السابع).. وقد أدى ھذا التصادم إلى رفض المؤسسات المعنیة بتمثیل ھذه الأدیان لنظریة التطور وحثھا للحكومات والمؤسسات التعلیمیة على حظر تداولھا أو على تقدیمھا بصورة شدیدة السلبیة لتنفیر المتلقین منھا.. لكن مع استمرار ظھور الأدلة المثبتة لنظریة داروین خلال العقود الماضیة، كانت ھناك حاجة إلى تغییر أسلوب التعامل معھا؛ لھذا ظھرت مدارس دینیة تؤكد أن تطور الكائنات الحیة (ومنھا الإنسان) لا یتعارض مع الكتب المقدسة؛ حیث یمكن اعتبار ما جاء فیھا مجازي المعنى... بھذا التصور، من الممكن أن تكون عملیة الخلق قد استغرقت ملایین السنین بالفعل... وقد دفع ھذا بابا الفاتیكان الأسبق یوحنا بولس الثاني إلى الاعتراف بصحة النظریة مؤكداً ھو الآخر عدم تعارضھا بالكامل مع الروایات الدینیة.. ومع ھذا، تبقى أكثریة المؤمنین بالأدیان الثلاثة رافضة بصورة أو بأخرى للنظریة بغض النظر عن الأدلة والبراھین.