Sunday, May 4, 2025

ليس مثل كل يوم - قصة قصيرة

 




يخرج من بيته كما في كل صباح، وعندما ينزل من البناية، ينظر إلى الأعلى ليراها تودعه من النافذة، لكنها اليوم لم تكن هناك، وبالرغم من أن الأمر لم يكن معتادا بالنسبة إليه، فقد مر الحدث من دون تساؤلات كثيرة، إذ لربما تأخرت عن موعد خروجه اليوم، أو رن هاتف البيت، فذهبت للرد عليه، أو أي شيء آخر، لم يعر اهتماماً للأمر، وانطلق في سيارته باتجاه عمله.

لم يكن المشهد في طريقه كما عهده كل يوم؛ الازدحام غاب عن الطرقات، الأرصفة خالية من المشاة، المحال التجارية، بالرغم من أن أبوابها مفتوحة، لا يوجد بها زبائن، وحتى أصحابها ليسوا بداخلها.. وفجأة، بدأ يدرك الأمر؛ "أنا الوحيد هنا"، إشارات المرور كلها خضراء، ولا سيارات في الشارع إلا سيارته.

"هل هو يوم عطلة وطنية؟" يوقف سيارته إلى جانب الطريق، ويخرج هاتفه المحمول من جيبه ويبحث فيه؛ "لا، اليوم الإثنين" ولا يصادف تاريخه أي مناسبة دينية أو وطنية أو قومية.. يجرب الاتصال بزوجته، أراد أن يسألها، ربما فاته شيء، ربما.. يتصل بها، لكنها لا تجيب، يفكر في العودة إلى بيته، لكنه بات ِأقرب إلى الشركة التي يعمل بها، فيقرر مواصلة طريقه، على أن يتصل بزوجته حال وصوله. وإن كان باليوم عطلة ما، فبالتأكيد، سيجد أبواب الشركة مقفلة.. لكنه يصل، ويجد الباب مفتوحاً، يدخل وحيداً، لا يقابل أيا من زملائه في طريقه إلى مكتبه، حتى موظفو الأمن غائبون.. يصل إلى مكتبه، يضع حقيبة يده، ويذهب لتفقد بقية المكاتب في الأقسام المختلفة؛ الأنوار مضاءة، أجهزة الكمبيوتر وشاشاتها كلها تعمل... لكن لا أحد. يتوجه إلى النوافذ، ينظر إلى الشارع، كل شيء يبدو طبيعيا، بالنسبة إلى يوم مشمس، التفاصيل هي ذاتها، لكن من دون أي إنسان... أو حيوان.. أين الطيور؟ أين القطط؟

يعود إلى مكتبه وفي رأسه ألف سؤال، أين الجميع؟ ما الذي حدث؟ ولماذا أنا وحدي، من دون كل البشر، موجود هنا، أو في الشارع أو في المدينة كلها؟ يخرج هاتفه مجددًا، يحاول الاتصال، لكن ما من مجيب.. يحاول الاتصال بأخيه، بوالدته، بأصدقائه، لكن من دون جدوى.

يحاول الاتصال عبر الإنترنت بأي شخص، يحاول بكل الطرق وباستخدام كل التطبيقات، لكنه بدا وحيداً يصرخ في صحراء مقفرة، لا يجيبه فيها أحد، ولا يسمع صوته فيها بشر.. يحمل الحقيبة مجدداً، ويقرر المغادرة والعودة سريعاً إلى بيته، يتوجه إلى المكان الذي ركن فيه سيارته، يجد المكان، لكن سيارته اختفت، يبدأ في البحث في كل مكان حوله، ربما يكون قد تركها في موقع آخر، هل يكون، وبسبب الحالة النفسية التي كان فيها، قام بركنها في موقف غير موقفه المعروف؟ لكن كل المواقف خالية، لا توجد سيارات على الإطلاق، لا سيارته ولا سيارات غيرها.. "ما الذي يحدث اليوم؟" يفكر بصوت عال: "كيف أعود إلى بيتي؟ لا أرى سيارات أجرة، ولا أرى حافلات نقل".. يخرج هاتفه مجدداً، ويفتح تطبيق سيارات الأجرة، "نعم، إنه يعمل", يطلب سيارة، أي تكسي، كل ما يريده هو العودة إلى بيته وزوجته وأبنائه.. تطبيق المحمول يؤكد أن السيارة ستصل خلال ثلاث دقائق.. ينتظر وينتظر.. لكن الدقائق الثلاث لا تنقضي.. "ما العمل؟" يعاود محاولة حجز التاكسي؛ هذه المرة، عليه الانتظار خمس دقائق.. ومجدداً، يبقى عداد الوقت في التطبيق كما هو، لا يتغير... خمس دقائق.. يقرر العودة مشياً على الأقدام.. قد يستغرقه الأمر ثلاث ساعات أو أكثر، لكن ما من خيار آخر.

يبدأ مشوار العودة، خطوات متسارعة.. الحر شديد، الشمس حارقة، يفكر خلال تحركه، "لم تكن الحرارة مرتفعة هكذا قبل قليل، كل شيء غريب اليوم".. لكنه يواصل المشي.


=================

أثناء سيره في طريق العودة، تتوارد الأفكار على ذهن سامي، تتدفق كفيضان عارم، "أين الجميع؟" ينظر في كل الاتجاهات، لا يرى أحداَ، يتوجه إلى مقهى مفتوح تفوح منه رائحة القهوة، يدخل، يدور بين الطاولات الصغيرة، هناك فنجان قهوة ساخنة على المنضدة، يقترب منه، يتناوله ويتذوق القهوة.. يعيد الفنجان إلى مكانه، ويغادر، عاجزاً عن الفهم أو حتى محاولة تفسير ما يراه، أو بالأحرى، ما لا يراه في هذا المشهد الغريب الماثل أمام عينيه.

يعود إلى مسيره، وفي كل دقيقة، يخرج هاتفه من جيبه، ويحاول الاتصال بزوجته؛ ثم يعيده.. لا فائدة.

وخلال تحركه، يبدو أن الطريق تتحرك تحت قدميه ببطء شديد، بطء يجعله يحاول الهرولة تارة والجري تارة أخرى، يشعر بالإرهاق بسرعة وكأنه قطع مسافات شاسعة، رغم أنه لم يتحرك إلا بضعة أمتار.. يتوقف إلى جانب الشارع، ينظر إلى نوافذ المنازل المحيطة، إلى السيارات المتوقفة على جانبيه، يجلس على الرصيف، يغلق عينيه، أملاً في أن يتغير كل شيء عندما يفتحهما مجدداً، لكن الوضع باق على حاله.

ينهض ويعود إلى المشي، يخلع سترته، فالحر شديد، والسماء صافية لا سحب فيها على الإطلاق، وحدها حرارة نور الشمس الساطع، توجه ضرباتها إلى رأس سامي، يتعرق ويشعر بدوار شديد، يبحث عن مكان يستظل به، يدخل في إحدى البنايات، ويجلس على درجات السلم، يصرخ: "مااااا هذاااااا؟ ما الذي يحدث اليوم؟" في تلك اللحظة، يسمع صوت حركة في الشقة على يمينه، يقف ويتوجه إلى بابها، يقرع الجرس، يدق الباب، يكرر المحاولة، لا يجيبه أحد، ولا يفتح له الباب أحد.. لكنه يشعر بوجود شخص ما، أو شيء ما في الشقة.. يحاول اقتحام المنزل بفتح الباب عنوة، وبكل قوته، ينجح في دخول الشقة.. يبدأ في البحث في أرجائها، يدخل إلى غرفة النوم، يجد رجلاً جالساً على طرف السرير، وقد بدت عليه علامات الخوف، والدهشة، لرؤية صديقنا، الذي يتوجه إليه ويسأله: "من أنت؟ أين الباقون؟ لماذا باتت المدينة مدينة أشباح؟" تأتيه الإجابة من شخص يرتجف جسده رعباً: "لا أعرف، أفقت من نومي هذا الصباح لأجد نفسي وحيداً، زوجتي وأولادي وكل شخص أعرفه، كلهم اختفوا.. من أنت؟ من أين أتيت؟"، يتحدث ورعشة صوته تشي بذعر عميق يشعر به.. يجيبه: "أنا؟ اسمي سامي، خرجت من بيتي هذا الصباح.. خرجت، كما في كل صباح، إلى عملي.. لكن، ليس هناك من بشر.. بحثت في كل مكان.. أين ذهبوا؟" يخيم الصمت.. والرجلان ينظران إلى بعضهما بتوجس، لا يثق أي منهما بالآخر، مع أنهما يعيشان في نفس الواقع الغريب، الذي يصعب تفسيره أو حتى وصفه.

يسأل سامي: "هل يمكنني شرب بعض الماء من مطبخك؟"

يومئ الرجل برأسه إيجاباً.. يتوجها معا إلى المطبخ، يخرج زجاجة من الثلاجة ويقدمها إلى سامي، يشرب منها ويعيدها إلى الثلاجة.. 

-"هل نخرج معاً؟ قد يكون هناك آخرون".. يقول سامي؛

-"لا، أنا باق هنا.. ماذا لو عادوا؟ يجب أن أكون في انتظارهم."

-"كما تريد.. أنا سأواصل المسير.. يجب أن أعود إلى بيتي.. منى في انتظاري، بالتأكيد هي خائفة الآن".

يتوجه إلى الباب، ينظر خلفه.. "آسف على اقتحام منزلك".. ويغادر.. يصل إلى الشارع مجدداً، ثم يتذكر، لقد ترك حقيبته في الشقة، يعود مسرعاً.. ليجد الباب الذي كسر قفله قبل قليل، موصداً، وكأن شيئاً لم يكن.. يحاول مجدداً فتح الباب، يقرر اقتحامه، ويتمكن مجدداً من الدخول.. لكن في هذه المرة، الشقة فارغة تماماً.. أما حقيبته، فلا وجود لها.. يتوجه إلى الثلاجة، ليعثر فيها على الزجاجة مغلقة لم تُفتح.. يهز رأسه، يلقي نظرة على المكان، ثم يغادر.

يجلس عند مدخل المبنى.. يستعيد ذكريات الأسبوع الماضي.. حديث تحول إلى نقاش محتدم مع زوجته، عن وضعهما المالي.. ديون كثيرة، بعضها للبنوك، والبعض الآخر لوالديها.. وتكاليف المعيشة وأقساط المنزل ورسوم المدرسة الأجنبية لابنيهما.. تقول له إن عمله لا آفاق تطور له في المستقبل، وتطلب منه البحث عن وظيفة جديدة، يجيبها بحدة، أنه حاول ويحاول، لكنه لم يتمكن حتى الآن من العثور على أي فرصة أفضل، تقول له إنه لا يبحث بجدية.. وإن الأمر سينتهي إلى كارثة، إن لم يفعل شيئاً وبسرعة.

يعود سامي إلى يومه الغريب.. وينظر إلى الجانب المقابل من الشارع.. يبتسم.. ثم ينهض، ويبدأ في التوجه إلى الجانب الآخر.

=================


يصل سامي إلى الجانب الآخر من الشارع، ويقف أمام مبنى كبير مدخله وراء سلالم رخامية.. ينظر إلى المدخل، ويفكر بصوت عال: "لم لا؟ لا يوجد ما يمنعني من الدخول.. سأحل مشكلاتي.. لم لا استغل هذا الوضع! لن يتضرر أحد، لا يوجد أحد ليتضرر مما سأفعل.. أنا الوحيد هنا".

يدخل إلى مبنى المصرف الأكبر في مدينته، يتحرك بخطى بطيئة في قاعته، ينظر في كل زاوية من زوايا المكان.. يتوجه نحو غرفة الخزنة، حيث المبالغ النقدية.. الباب مشرع، والخزنة مفتوحة والأموال أمامه كثيرة، بعملات مختلفة.. يبتسم، ويبدأ في البحث عن كيس أو حقيبة لكي يعبأها بالنقود، يجد حقيبة مشابهة لتلك التي فقدها في الشقة قبل قليل.. يأخذها ويبدأ في وضع الأموال فيها، ثم يضع بعضاً في جيوبه، يأخذ الكيس المستخدم لسلة القمامة ويقوم بملئه أيضاً.. ثم يغادر.

الفكرة الوحيدة التي تدور في ذهنه الآن هي ضرورة الوصول إلى زوجته، ليبلغها بالخبر السار، الآن لديهما ما يحل كل المشكلات، ويجلب السعادة مجدداً إلى حياتهما، لا خوف من الغد، ولا قلق من تلقي مكالمة هاتفية من الدائنين، ولا تعليقات سخيفة أخرى من عائلة منى.. بهذه الأموال، سيتحررا من كل قيد، وسيتمكنان من العيش براحة واطمئنان.. لكن هل ستكون منى في البيت بانتظاره؟ لماذا لا تكون قد اختفت، كما حصل مع كل الآخرين؟ ماذا لو لم يجدها أو يجد ابنه وابنته؟ ما فائدة هذه الأموال إذن؟

يسارع إلى الخروج، يجب أن يصل إلى بيته.. بأي ثمن.. يحاول فتح إحدى السيارات على جانب الطريق، واحدة تلو أخرى، حتى يجد باب إحداها مفتوحاً، يركب ويبحث عن المفتاح، يجده في قفل السيارة، وكأن شخصاً كان يهم بالتحرك، قبل وقوع ما حدث.. يشغل السيارة، ويقودها باتجاه البيت.. تتسارع دقات قلبه، فبوصوله إلى المنزل، هو على ثقة من أن كل شيء سينتهي ويعود إلى طبيعته..

أخيراً، وصل.. يخرج من السيارة حاملاً ما جلبه من البنك، وينطلق نحو شقته.. يصل، ويفتح الباب.. ويدخل.. ينظر حوله، ويدور في أرجاء المكان.. "هذا ليس بيتي، هذا بيت آخر.. لا، إنه ليس منزلاً، إنه شيء آخر.. يبدو كعيادة أو.. مستشفى".. يتوجه نحو باب بعيد في آخر القاعة، يبدو وراءه نور متوهج.. يفتح الباب ببطء؛ يشعر بخوف شديد، فهو لا يعرف ما يوجد وراء ذلك الباب.. وكلما فتحه أكثر كلما اشتد توهج النور، حتى بات غير قادر على الرؤية أو حتى فتح عينيه.. يشعر بحرارة شديدة تغمره من كل جانب.

يحاول فتح عينيه مجدداً، بالكاد يرى وجوهاً تنظر إليه عن قرب.. "من أنتم؟" يسأل بصوت خافت، حتى تبدأ الصورة في الظهور أمامه؛ هو ممدد على سرير في مستشفى، وزوجته وطفلاه أمامه، ينظرون إليه والدموع في عيونهم.. تقبله زوجته، وتقول له: "أخيراً، عدت إلينا."


-"عدت من أين؟"

-"لقد تعرضت لحادث سير قبل شهر، وكنت في غيبوبة منذ ذلك الوقت".

-"حادث سير؟"

-"نعم، لكن الحمد لله، أنت الآن بخير، عدت لكي تبقى معنا إلى الأبد".

يفكر سامي فيما حدث، وفي المدينة التي تجول في شوارعها، وفي الشقة التي زارها، هو يتذكر كل شيء بدقائقه وأصغر تفاصيله.. الشعور بالوحدة والخوف، كان حقيقياً.. "لا، كانت مجرد هلوسات خلال وجودي في الغيبوبة" يقول لنفسه.. الآن، عاد إلى أسرته.. وإلى واقعه.

بعد أيام قليلة، يغادر المستشفى مع زوجته.. ويصل إلى بيته، يحتضن ابنه وابنته، ويتوجه إلى غرفة نومه.. يتوجه بسؤال إلى منى: "ماذا حل بحقيبتي؟" تتوجه إلى جانب السرير، وتجلبها إليه.. "ها هي".. تقول له، "لكن، لم أفهم حتى الآن، من أين جاءت كل هذه النقود، التي كانت بداخلها؟"


ينظر إليها وعلامات التعجب والدهشة بادية عليه.. "نقود؟ أي نقود؟"


انتهى


إياد أبو عوض

Sunday, February 9, 2025

التغير المتسارع في موازين القوى الاقتصادية العالمية: التكيف مع مستقبل متعدد الأقطاب

 التهديدات التي وجهها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بفرض تعريفات كبيرة على دول مثل كندا والمكسيك، وفرضها بالفعل على الصين، وربما أيضاً على تكتلات مثل الاتحاد الأوروبي، وتلويحه بشكل متكرر باستخدام سلاح العقوبات بشكل أكبر على إيران وروسيا وغيرهما، يفرض ضرورة الإجابة عن سؤال مهم: ما مدى واقعية هذه التهديدات؟ وما نتائجها على الاقتصاد الأميركي نفسه، لو تم فرضها بالفعل؟

على مدى عقود، استغلت الولايات المتحدة هيمنتها الاقتصادية والمالية للتأثير على الأسواق العالمية. ومع ذلك، فإن صعود القوى الاقتصادية البديلة، وتزايد المقاومة لهيمنة الدولار الأميركي، والتغيرات المتسارعة في أنماط التجارة العالمية باتت تشكل تحدياً لهذه الهيمنة الراسخة. وبينما تستمر الولايات المتحدة في استخدام الإكراه المالي، والرسوم الجمركية، والقيود التجارية كأدوات للضغط، تسعى العديد من الدول إلى تحقيق الاستقلال الاقتصادي، مما يشير إلى تحول جوهري في موازين القوى الاقتصادية العالمية. ويهدد هذا التحول قدرة الولايات المتحدة على فرض قواعدها في النظام المالي والتجاري الدولي بشكل أحادي.

 

 معضلة الدولار: تناقض جوهري في السياسة الاقتصادية الأميركية

أحد التحديات الرئيسية في السياسة الاقتصادية الأميركية يتمثل في السعي للحفاظ على الدولار كعملة احتياطية عالمية، مع تقليص العجز التجاري في الوقت نفسه. يمنح الدور المركزي للدولار في التجارة العالمية الولايات المتحدة نفوذاً كبيراً على المعاملات المالية الدولية، ويسمح لها بتمويل العجز دون تداعيات فورية. يعتمد هذا النظام جزئياً على استمرار العجز التجاري الأميركي، حيث يؤدي إلى ضخ الدولارات في الأسواق العالمية، مما يتيح للدول الأخرى الوصول إلى العملة اللازمة للتجارة الدولية.

يظهر هذا التناقض بوضوح في السياسات التي تدعو إلى فرض الرسوم الجمركية والقيود التجارية. وقد أشار الخبير الاقتصادي مايكل هدسون إلى أن الحفاظ على وضع الدولار كعملة احتياطية يتطلب من الولايات المتحدة الاستمرار في تحقيق العجز التجاري لتزويد الأسواق العالمية بالدولارات اللازمة. لكن تقليص هذا التدفق عبر سياسات حمائية قد يؤدي إلى زعزعة استقرار الاقتصادات المعتمدة على احتياطيات الدولار، مما قد يسبب أزمات مالية عالمية. (هدسون، "الإمبريالية الفائقة"، 2021؛ "قتل المضيف"، 2015).

هذه المخاوف ليست نظرية فحسب، بل إنها تتجسد بالفعل على أرض الواقع. فقد سعت دول مثل الصين وروسيا إلى تقليل اعتمادها على الدولار، مدفوعة بالسياسات الأميركية التي تستخدم الأنظمة المالية كسلاح اقتصادي. على سبيل المثال، فرضت واشنطن عقوبات على روسيا بعد ضمها لشبه جزيرة القرم، مما دفع موسكو إلى تسريع جهودها للتخلص من هيمنة الدولار. وبالمثل، فإن الصين تسعى إلى تدويل عملتها اليوان كجزء من استراتيجية لحماية اقتصادها من الإكراه المالي الأميركي. ووفقًا لتقرير صادر عن المجلس الأطلسي لعام 2023، "ارتفعت المدفوعات عبر الحدود باليوان الصيني بنسبة 24% منذ عام 2020، مما يعكس تحولاً تدريجياً بعيداً عن الدولار.

 

سلاح ذو حدين: النفوذ الاقتصادي الأميركي وتأثيراته العكسية

أصبحت الولايات المتحدة تعتمد بشكل متزايد على أدوات الحرب الاقتصادية، مثل العقوبات، والقيود التجارية، والإكراه المالي، كوسائل للضغط السياسي والاقتصادي. وتستخدم هذه السياسات كبديل عن المواجهات العسكرية المباشرة، حيث تعتمد واشنطن على النفوذ المالي لإجبار الدول الأخرى على الامتثال لسياستها.

لكن لهذا النهج حدوده؛ فعلى الرغم من أنه قد يحقق نتائج على المدى القصير، فهو يحفز الدول المستهدفة على تطوير أنظمة اقتصادية بديلة. وكما أشار هدسون، يمكن للحروب المالية والتجارية أن تكون بديلاً للقوة العسكرية لفرض السيطرة الاقتصادية، "في العادة، لا تحتاج إلى القوة العسكرية لإخضاع اقتصاد آخر واستعماره. يمكنك استخدام الحرب المالية، ويمكنك استخدام الحرب التجارية، وهذه تُعتبر 'سلمية'." (هدسون، "الإمبريالية الأميركية في العلن"، 2025).

تتجلى هذه الظاهرة في دول البريكس (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب إفريقيا)، التي توسع تدريجياً تجارتها بعملاتها المحلية. فقد شهدت التجارة بين روسيا والصين ارتفاعاً ملحوظاً في استخدام الروبل واليوان، مما قلل من اعتمادهما على الدولار الأميركي. ووفقًا لما ذكره الخبير في الشؤون المالية والاقتصادية أليكس كرينر في حوار جمعه مع الصحفي والمحلل الجيوسياسي بيبي إسكوبار، "نشهد بالفعل تحولاً كبيراً في التجارة بين روسيا والصين إلى العملات المحلية."

ولا يقتصر هذا الاتجاه على دول البريكس فقط، بل يمتد ليشمل دولاً في أميركا اللاتينية، وإفريقيا، وجنوب شرق آسيا، التي تبحث عن بدائل للنظام المالي المهيمن على الدولار؛ فقد ناقشت الأرجنتين والبرازيل إمكانية إنشاء عملة إقليمية موحدة (رغم أن قدوم خافيير ميلي قد يعرقل هذا الاتجاه)، في حين بدأت الهند في تسوية بعض المعاملات الدولية بعملتها المحلية، الروبية. وتشير بيانات صندوق النقد الدولي إلى انخفاض نسبة الدولار في الاحتياطيات العالمية، على الرغم من أنه لا يزال يحتفظ بسيطرة كبيرة.

 

التعقيدات الناتجة عن السياسات الحمائية

تهدف السياسات الحمائية، مثل فرض الرسوم الجمركية، إلى حماية الصناعات المحلية، لكنها قد تؤدي إلى عواقب غير مقصودة. وبينما يرى البعض أنها ضرورية لحماية الشركات الأميركية، يؤكد آخرون أنها غالباً ما تؤدي إلى نتائج عكسية، خاصة إذا واجهت إجراءات انتقامية من الدول الأخرى. على سبيل المثال، فإن فرض رسوم جمركية بنسبة 100% على دول البريكس قد يؤدي إلى عزل الولايات المتحدة عن الأسواق الناشئة بشكل شبه كامل.

كما أن القيود التجارية قد تضر بالشركات الأميركية التي تعتمد على الأسواق الدولية. فالكثير من الصناعات الأميركية تعتمد على التصدير، وتقييد هذه الفرص قد يؤثر على النمو الاقتصادي. وقد حذر هدسون من أن "فرض قيود على التجارة الخارجية قد يحد من القدرة على البحث والتطوير، مما يؤدي إلى تراجع القدرة التنافسية التكنولوجية على المدى البعيد." (هدسون، "الإمبريالية الأميركية في العلن"، 2025).

في الحوار الذي جرى بين كرينر وإسكوبار، أشار كرينر إلى أن القلق يمتد الآن إلى ما هو أبعد من التجارة، ليشمل المنافسة التكنولوجية أيضاً، موضحاً كيف أن صانعي السياسات في الولايات المتحدة استهانوا بالتقدم التكنولوجي السريع في الصين، لا سيما في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي... في الماضي، كانت الشركات الأميركية تهيمن على القطاعات الرئيسية في التكنولوجيا، ولكن وفقاً لكرينر نفسه، "الصين تتصدر اليوم في 60 مجالاً من أصل 64 من المجالات التكنولوجية الرئيسية، بينما تتصدر الولايات المتحدة في ستة أو سبعة فقط." يعكس هذا التحول الدراماتيكي كيف أن السياسات الاقتصادية التقييدية، بدلاً من تعزيز الابتكار، قد تسرّع فعلياً في تراجع القيادة التكنولوجية العالمية للولايات المتحدة.

 

عالم متغير: رد الفعل الدولي على السياسات الأميركية

مع تزايد عدد الدول التي تسعى إلى تحقيق استقلالها الاقتصادي، تواجه الولايات المتحدة تحدي الحفاظ على نفوذها دون عزل حلفائها وشركائها، وهناك مخاوف من أن تكتسب السياسات الاقتصادية العدوانية للولايات المتحدة صفة العدائية بدلاً من التعاونية.

ويزيد هذا التعقيد من خلال السياسات المتناقضة التي تتبعها واشنطن. فقد تضغط الولايات المتحدة على الدول لاستخدام الدولار، فيما تفرض، في الوقت ذاته، عقوبات تمنع تلك البلدان من ذلك. هذا التناقض يضع بعض الدول في موقف صعب، خاصة تلك التي تحاول طوعاً المشاركة في النظام المالي الذي تقوده الولايات المتحدة.

بيبي إسكوبار أشار إلى أن هناك من يرى في السياسات الأميركية تهديدًا اقتصادياً، مما يدفعه للبحث عن أنظمة مالية بديلة.

 

التكيف مع عالم متعدد الأقطاب

يشهد النظام الاقتصادي العالمي تطوراً سريعاً، وتراجعاً في قدرة الولايات المتحدة على فرض سياساتها الاقتصادية بشكل أحادي. فقد أثبتت أدوات الإكراه الاقتصادي، والرسوم الجمركية، والهيمنة المالية عدم فعاليتها مع تطور أنظمة مالية بديلة... وبينما قد تحاول واشنطن الحفاظ على السيطرة، فإن العواقب غير المقصودة قد تسرّع الانتقال إلى عالم اقتصادي متعدد الأقطاب.

الخبراء يؤكدون أن إنشاء أنظمة مالية بديلة يعني أن حفاظ الولايات المتحدة على نفوذها التقليدي سيكون أمراً في غاية الصعوبة.

والسؤال الأساسي الآن هو: "هل ستتمكن الولايات المتحدة من التكيف مع هذه التحولات، أم ستستمر في مسار قد يؤدي إلى عزلها اقتصادياً؟" استمرار الاعتماد على استراتيجيات قديمة قد يجعلها تتخلف عن الركب، فيما يشير صعود البدائل الاقتصادية، وحركة إزالة هيمنة الدولار، والتقدم التكنولوجي العالمي إلى مستقبل يحتاج فيه الاقتصاد الأميركي إلى إعادة تعريف دوره العالمي بدلاً من محاولة التمسك بالهيمنة التقليدية.

إياد أبو عوض

 

 

Sources:

 

1. Michael Hudson, *Super Imperialism: The Economic Strategy of American Empire* (2021).

2. Michael Hudson, *Killing the Host: How Financial Parasites and Debt Bondage Destroy the Global Economy* (2015).

3. Michael Hudson, *American Imperialism in Plain Sight* (2025). (https://michael-hudson.com/2025/02/american-imperialism-in-plain-site/)

4. Atlantic Council, “By the numbers: The global economy in 2024”. (https://www.atlanticcouncil.org/blogs/new-atlanticist/by-the-numbers-the-global-economy-in-2024/)

5. International Monetary Fund (IMF), “Currency Composition of Official Foreign Exchange Reserves” (2022). (https://data.imf.org/?sk=e6a5f467-c14b-4aa8-9f6d-5a09ec4e62a4)

6. YouTube video discussion with Alex Krainer and Pepe Escobar. (https://www.youtube.com/watch?v=suZYb-8eAKk)


Sunday, December 22, 2024

معضلة الزمن.. التكنولوجيا كمعيار لمرور السنين في أعمارنا


إنه بالفعل أمر مثير للدهشة وفي الوقت ذاته مربك إلى حد كبير؛ أن ندرك أن بعض الناس الذين نعرفهم ونتعامل معهم اليوم ليست لديهم أي معرفة بالمعالم التكنولوجية والتجارب، التي شكلت حياة الأجيال السابقة؛ الأجيال التي كنا نحن جزءاً منها... هذا الإدراك يعتبر تذكيرًا مؤلماً (في بعض الأحيان) بكيفية مرور الوقت—غالباً بدون أن نلاحظه—وكيف يمكن لأي أمر مألوف أن يصبح قديماً بسرعة. كما يعكس ذلك الرحلة التي يمر بها الجميع: من الشباب إلى منتصف العمر، ومن ثم إلى الشيخوخة، لنكتشف فجأة أن الأدوات والممارسات التي كنا نعتمد عليها في طفولتنا وشبابنا أصبحت من آثار الماضي، غير معروفة للأجيال الجديدة.

مَن يذكر اليوم أو حتى يعرف ماهية أجهزة الفاكس والتلكس؟ من يتذكر ضرورة انتظار وصول الرسائل في مكتب البريد، بدلاً من انتظار رسائل فورية عبر تطبيقات واتساب وتليغرام؟

فكر على سبيل المثال في صوت ربط مودم الـ Dialup بالإنترنت؟ بالنسبة لبعضنا، كان هذا الصوت المميز عنوان عصر رقمي جديد، مزيجًا من الأمل والتقدم والتطور اللامحدود. اليوم، يبدو مفهوم الانتظار دقائق قبل الوصول إلى موقع إلكتروني ما أمراً غير معقول للأجيال الجديدة، التي تعرف فقط الاتصال السريع والفوري.

فكر في تطور الهواتف... مَن من الشباب اليوم يعرف كيفية استعمال هاتف ثابت مع قرص دوار؟ مفهوم الانتظار في المنزل والجلوس بجانب الهاتف لاستلام مكالمة مهمة غير مألوف لجيل يعتمد على الأجهزة المحمولة التي توجد دائمًا في متناول اليد... وماذا عند الحديث عن الهواتف المحمولة؛ كانت حيازة جهاز بحجم كبير كالطوبة علامة للفخر والتقدم التقني... أجهزة مثل Motorola StarTAC التي كانت تمثل قمة التقدم التكنولوجي بشكل مدهش في وقتها، توجد الآن في المتاحف وتعتبر تذكارات نادرة لهواة التاريخ (مثلي 😊). ومع ذلك، فإن هذه الاختراعات فتحت الطريق للهواتف الذكية الرقيقة والمتعددة الوظائف التي نعتمد عليها اليوم.

عملية تنصيب نظام تشغيل مثل Windows 95 أو Windows 98 كانت تعتبر تحديًا كبيراً... كانت تتطلب إدخال 16 إلى 32 قرصًا مرنًا Floppy Disks ومتابعة عملية إدخالها واحدا تلو الآخر.. كانت العملية كلها قد تفشل إذا تضرر قرص واحد أو تعرض للمسح المغناطيسي، مما أجبر المستخدم على البدء من الصفر؛ مهمة محبطة للغاية ومضيعة للوقت بحسب معايير اليوم.

يمكن قول الشيء نفسه عن وسائط التخزين... أيام إعادة لف أشرطة VHS أو التقليب من أجل البحث عن أغنية محبوبة أو مقطوعة موسيقية، أمر تم استبداله بخدمات البث الفوري التي توفر مكتبات ضخمة من المحتوى المسموع والمشاهَد. الأجيال الجديدة قد لا تعرف أبدًا صعوبة وجود قرص CD مخدوش يتقطع صوت الموسيقى الصادر عنه، أو سعادة إنشاء شريط موسيقي Mix لصديقة، وهو تصرف شخصي ومؤثر لكنه تلاشى في العصر الرقمي.

حتى الطريقة التي نستهلك فيها الأخبار والمعلومات خضعت لتحول جذري... من الانتظار بفارغ الصبر للجريدة الصباحية أو الجلوس أمام شاشة التلفزيون لمشاهدة نشرة الأخبار مساءً، انتقلنا إلى عصر التحديثات الفورية عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات الجرائد والمجلات والمواقع الإخبارية.. التجربة اللمسية لقلب الصفحات المطبوعة أو تعديل هوائي التلفزيون للتمكن من تحسين الاستقبال، كلها الآن مفاهيم غريبة ومنسية، حل مكانها المسح والنقر على الشاشات اللمسية.

هذه التحولات ليست فقط علامة على سرعة التقدم التكنولوجي، ولكنها تعكس أيضًا تفاعل تاريخنا الشخصي مع هذه الاختراعات... كل جهاز قديم وكل ممارسة منسية هي لحظة من الزمن، فصل من قصة حياة كلٍ منا؛ تذكرنا بالتحديات التي واجهناها والأمور المدهشة التي احتضناها في عالم كان في وقته يبدو القمة في الحداثة والتقدم.

ومع ذلك، هذا الوعي يصاحبه عادة شعور بالحزن... ليس فقط بسبب التقدم في العمر، بل أيضاً لأن مرور الزمن يعني أن ندرك أن ما كان يومًا يمثل الواقع بالنسبة لنا، أصبح الآن ذكرى بعيدة، بالنسبة للأجيال الجديدة التي نشأت في عالم الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي والتكنولوجيات الذاتية الأداء.

قد تُقابل الابتكارات الحديثة يومًا ما بنفس المزيج من الحنين والحيرة التي نشعر بها تجاه الهواتف الأرضية والأقراص المرنة.

ختاماً، هذه الرحلة عبر تطور التكنولوجيا ليست مجرد قصة أدوات وأجهزة؛ فهي شهادة على الإبداع البشري، والمرونة، ودافعنا الدائم للتحسين والابتكار... في الوقت نفسه، تُذكرنا بلطف بضرورة التوقف للحظة وتقدير اللحظات العابرة، والتجارب المشتركة، والقصص التي نحملها معنا نحو مستقبل دائم التغير. وبذلك، نكرم كلًا من التقدم الذي حققناه، وذكريات زمن كانت فيه الحياة، رغم كونها أكثر تعقيدًا، ثرية بالمعاني والتجارب.

Thursday, November 21, 2024

الوهم الأكبر: أسطورة الانتصار في حرب نووية

 
تثير التصريحات الأخيرة التي نُسبت إلى الأميرال توماس بيوكانان، المتحدث باسم القيادة الإستراتيجية الأمريكية (STRATCOM)، موجة من القلق والاستياء... بوكانان ناقش احتمال "الانتصار" في حرب نووية ضد روسيا، متجاهلًا على ما يبدو الخسائر الكارثية التي قد تنجم عن مثل هذا الصراع. هذه التصريحات خطيرة للغاية، فهي تتحدى الإجماع العالمي الذي يعتبر الأسلحة النووية أدوات للردع، وليست أدوات للحرب.

فكرة "الانتصار" في حرب نووية هي وهم خطير يجب التصدي له وإيقافه قبل أن يتصاعد إلى تهديد وجودي حقيقي.

 

التحول المقلق في العقيدة النووية

على مدى عقود، كانت الأسلحة النووية تُعتبر في الأساس وسيلة للردع تذكير قاتم بقدرة البشرية التدميرية. تعتمد هذه الإستراتيجية، التي تُعرف غالبًا بمفهوم "التدمير المتبادل المؤكد" (MAD)، على الفرضية بأن استخدام الأسلحة النووية من قِبل أي قوة عظمى سيؤدي إلى إبادة جميع الأطراف المعنية... وقد كان هذا المفهوم ركيزة أساسية للأمن العالمي منذ الحرب الباردة، حيث حافظ على توازن غير مستقر ولكنه فعال بين الدول المسلحة نوويًا.

ومع ذلك، إذا كان مسؤولون مثل الأميرال بوكانان يدعون حقًا إلى إمكانية "الانتصار" في صراع نووي، فإن ذلك يمثل انحرافًا خطيرًا عن هذه العقيدة. مثل هذا الخطاب يقوض عقودًا من جهود الحد من التسلح ويشير إلى استعداد للنظر في الحرب النووية كخيار قابل للتنفيذ وهو احتمال مليء بالعواقب الكارثية.

 

التكاليف الكارثية للحرب النووية

فكرة "الانتصار" في حرب نووية ليست فقط غير أخلاقية، بل هي أيضًا خاطئة إستراتيجيًا ومستحيلة عمليًا... أي صراع نووي مع روسياأو أي دولة مسلحة نوويًا— سيؤدي إلى دمار غير مسبوق، بما في ذلك مقتل الملايين، مع معاناة الناجين من إصابات خطيرة وأمراض إشعاعية؛ التسبب بحرائق ضخمة، وإطلاق إشعاعات نووية، وإتلاف النظم البيئية على المستوى الطويل الأمد.. بالإضافة إلى ذلك، فإن الحرب النووية قد تؤدي إلى "شتاء نووي" يحجب أشعة الشمس ويعطل الزراعة العالمية، مما قد يتسبب في مجاعات على نطاق واسع، وينتهي بانهيار اقتصادي وتدمير البنية التحتية في دول العالم.

قبول مثل هذه الخسائر كأضرار جانبية في سبيل تحقيق "النصر" هو تخلي مروع عن المسؤولية الأخلاقية والإدارة العقلانية.

 

في الختام...

المناخ الجيوسياسي الحالي والنزاع القائم، الذي يتميز بتوتر متنامٍ بين الولايات المتحدة وروسيا، يزيد بشكل كبير من مخاطر مثل هذا الخطاب... مع مواجهة، مثل الحرب في أوكرانيا والخلافات حول دور الناتو في أوروبا، يرتفع احتمال سوء الحسابات بصورة خطيرة... وإدخال مفهوم "الانتصار" في حرب نووية إلى هذه المعادلة الصعبة قد يزعزع جهود السلام الهشة.

من الناحية الأخلاقية، من المستحيل الدفاع عن فكرة استخدام الأسلحة النووية... إذ إن تأثيرها العشوائي الهائل على المدنيين يجب أن يبقيها في إطار الملاذ الأخير، وليس أداة للطموح الإستراتيجي.

يجب أن يرفض العالم الوهم الخطير المتعلق بإمكانية "الانتصار" في حرب نووية، وأن يعمل بشكل مكثف لضمان عدم استخدام مثل هذه الأسلحة مرة أخرى. أي شيء آخر يمثل تهديداً لمستقبل كوكبنا بأسره.

المعتوه بيوكانون يتحدث عن إمكانية الفوز في حرب نووية ضد روسيا، بغض النظر عن الخسائر؟

يجب وقف هذا الجنون.

إياد أبو عوض

 

 

Sunday, October 6, 2024

Motorola StarTAC 130 الإرث المتواصل لهاتف


في عام 1998، شهد العالم ولادة أسطورة—Motorola StarTAC 130. لم يكن مجرد هاتف محمول؛ بل كان رمزًا للابتكار، والتصميم الأنيق، والموثوقية الثابتة. بفضل تصميمه المدمج وآلية الفتح المبتكرة، شكّل StarTAC 130 لحظة محورية في تطور الاتصالات المحمولة.

بعد مرور 26 عامًا، وعلى عكس كل التوقعات، لا يزال هذا الأثر الذي يبدو متقادمًا ينبض بالحياة. وعلى الرغم من اعتماده على شبكة 2G التي أصبحت قديمة الآن، لا يزال StarTAC 130 يجري المكالمات ويرسل الرسائل النصية بكل سهولة. في عالم تتسارع فيه التكنولوجيا نحو التقادم، يقف هذا الهاتف كناجٍ مقاوم—شاهدًا على أوقات أكثر سهولة وبساطة.

ولكن دعونا نفكر قليلاً: أي هاتف ذكي معاصر يمكنه التفاخر بمثل هذه الديمومة؟ في عصر التصنيع الذي يتعمد "التقادم للتجديد"، يعتبر العثور على هاتف يظل يعمل لأكثر من عقد من الزمان أمرًا نادرًا.

إن قدرة StarTAC 130 على الصمود تبرز التباين الواضح بين ممارسات الهندسة في الماضي والحاضر. في السابق، كانت المنتجات تُصنع بعناية مع التركيز على المتانة وطول العمر... الأجهزة، مثل StarTAC، كانت أعمدة راسخة—مبنية لتتحمل السنوات، وليس مجرد دورة التحديث التالية... والآن يطرح السؤال: "أي هاتف محمول اليوم يمكن أن نتوقع أن يعمل لأكثر من ربع قرن؟" في عالم تُصمم فيه الأجهزة عادةً لتكون قابلة للتقادم المخطط له، يُعتبر العثور على هاتف يعمل بشكل صحيح حتى بعد مرور 10 سنوات - إذا أمكن ذلك - أمرًا نادرًا... الهواتف الذكية الحديثة، المليئة بأحدث الميزات والتقنيات المتطورة، غالبًا ما تكافح للحفاظ على أدائها حتى بعد بضع سنوات من الاستخدام؛ تدهور البطارية، وتحديثات البرامج، والقيود المتعلقة بالأجهزة تجعلها غير فعالة بشكل أسرع بكثير مقارنة بنظيراتها الأقدم.

لذا، فهاتف StarTAC 130—القادم من الماضي، يذكرنا بأن الحرفية كانت تتفوق ذات يوم على الاتجاهات التجارية التي تهدف للربح "فقط". إنه جهاز يتحدى الزمن، ويشير إلى حقبة كانت فيها التكنولوجيا أكثر من مجرد شيء يُستهلك بسرعة—كانت فنًا يدوم.

Tuesday, September 17, 2024

مستقبل التكنولوجيا.. ما هو الإنجاز الكبير القادم؟



من السهل أن نتخيل مستقبلًا مليئًا بالسيارات الطائرة الذاتية القيادة أو حتى الرحلات الروتينية إلى المريخ (التي يعدنا بها إيلون مسك) فالتكنولوجيا تتقدم بخطوات كبيرة ومتسارعة يصعب اللحاق بها بشكل مستمر.

وفي عالمنا الخاص، تغرينا التقنية دائمًا بأحدث الأجهزة، سواء كانت أفضل الهواتف الذكية أو أقوى الكمبيوترات المحمولة. وغالبًا ما نعتقد أن هذه المنتجات ستتفوق على المنافسة، وستوفر لنا سنوات من السعادة، وستبرر الاستثمار فيها.

كثير منا يعرف هذا الشعور جيدًا — سواء كان ذلك عند شراء أول جهاز  Microsoft Surface Pro وأول iPad Pro من أبل مع قلم Apple Pencil المتفوق، أو حتى هاتف Galaxy Fold... إن الترقب لامتلاك شيء جديد ومتطور قد يكون أقوى من أن يقاوَم... لقد استخدمتُ هذه المنتجات بشكل مكثف وقدرت الإثارة التي قدمتها والشعور الإيجابي الذي جلبته معها.

الآن، الاهتمام الأكبر يتجه نحو الحواسيب الشخصية التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي... المفهوم بسيط: يجب أن تحتوي الكمبيوترات، التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، على وحدة معالجة مركزية (CPU) ووحدة معالجة الرسومات (GPU) ووحدة معالجة عصبية (NPU) مصممة لتلبية متطلبات الحوسبة المتوازية الخاصة بالذكاء الاصطناعي.

ومع ذلك، لو كنت قد اشتريت حاسوبًا شخصيًا يعتمد على الذكاء الاصطناعي في بداية هذا العام، فهو سيكون قديماً بالفعل الآن؛ ظهرت شريحة Intel Meteor Lake “Core Ultra” بوحدة المعالجة العصبية (NPU) في "الكمبيوترات المحمولة الذكية" من Acer و Lenovo... ومع ذلك، بحلول شهر مايو، أعلنت مايكروسوفت أن تلك الأجهزة باتت بطيئة جدًا في تلبية معاييرها الجديدة الخاصة بــ Copilot+، والتي تتطلب وحدة معالجة عصبية قادرة على تنفيذ 40 تريليون عملية في الثانية  (TOPS)، فيما يمكن لوحدة الـ (NPU) من إنتل معالجة 10 تريليون عملية في الثانية فقط... والآن، الحواسيب الشخصية التي تعتمد على شرائح ARM من Qualcomm والمصممة خصيصًا لتلبية هذا المعيار تغزو الأسواق.

لكن هل هذا التطور كافٍ لتبرير شراء أجهزة جديدة؟

شخصيًا، لا أعتقد أن التبني المبكر للكمبيوترات التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي هو الخطوة الأذكى في الوقت الحالي.. وأخطط للتمسك بأجهزتي الحالية لفترة أطول، محاولًا الاستفادة من قيمتها إلى أقصى حد قبل الانتقال إلى الخطوة التكنولوجية الأكبر.

وفيما نتحدث عن هذا الموضوع، يجدر بنا أن نسأل: ما هو الإنجاز الكبير التالي في التكنولوجيا؟ لقد فكرت في هذا كثيرًا في الفترة الأخيرة... ولسنوات، توقعت أن "الذكاء الاصطناعي" سيكون الحدث الكبير المنتظر. ولكن مع الاهتمام الكبير الذي حصل عليه الــ AI مؤخرًا، يبدو أن هذا الجواب بات قديمًا؛ فالذكاء الاصطناعي الآن يبدو جزءاً من الحاضر أكثر من كونه مشهداً من المستقبل.

إذن، ما البديل؟ الحوسبة الكمية (Quantum Computing) التي تستخدم مبادئ الفيزياء الكمية لإنشاء كمبيوترات فائقة السرعة قادرة حتى على فك شيفرة أكثر كلمات المرور أمانًا وتعقيداً.. لكن هذه التقنية لا تزال بعيدة عن الاستخدام العملي في الأجهزة الشخصية.. هل البديل هو Web 3.0؟ الذي يعد إنترنت أكثر ذكاءً من دون مركزية في إدارته، حيث يكون الذكاء الاصطناعي موجودًا في كل أرجائه، مما يجعل استخدامات الإنترنت أكثر سهولة وكفاءة.. سيكون نظاماً يتم فيه ربط جميع البيانات العالمية، مما يسمح للآلات بفهم وتفسير المعلومات بمستوى مماثل لذلك الخاص بالبشر.

وعلى عكس الواقع الذي نعيشه اليوم، حيث تتحكم شركات التكنولوجيا الكبرى في بيانات المستخدمين، يعد Web 3.0 بتمكين الأفراد من السيطرة على معلوماتهم الشخصية.. فيما ستضمن تقنية الـ Blockchain الشفافية والأمان، ما سيسمح بالتبادلات المباشرة بين الأفراد دون وسطاء مثل البنوك أو الشركات، وستسهل العملات المشفرة المعاملات، وستقوم العقود الذكية بأتمتة الاتفاقيات.

نظريًا، يمكن أن يجعل هذا التحول عمالقة التكنولوجيا التقليديين والمؤسسات المالية الكبرى أقل أهمية، مما يحقق ديمقراطية الإنترنت وتمكين المستخدمين.

وبعد كل ذلك، ربما علينا أن ننظر إلى ما هو أبعد من السيليكون؛ التكنولوجيا الحيوية تتقدم بسرعة، مما يمكّن من تحقيق اختراقات في المجالات الطبية، وتعديل الجينات، وعلم الأحياء الاصطناعي، الأمر الذي قد يطلق ثورة في الرعاية الصحية.

وسط هذه الأفكار، غيّرت محادثة واحدة وجهة نظري؛ عندما سألني شخص مؤخراً عن توقعي للإنجاز الكبير القادم، كانت لدي إجابة جديدة: الروبوتات المستقلة والواعية ذاتياً... تخيلوا آلات ليست فقط ذكية، بل أيضاً مستقلة وقادرة على الاعتماد على نفسها. ومع ذلك، يجب أن نتعامل بحذر مع هذا الاحتمال: إذا أصبحت الروبوتات ذكية جدًا، فقد تستنتج ببساطة أن البشر أغبياء للغاية ويمكن القضاء عليهم بسهولة... دعونا نأمل ألا تصل إلى هذا الاستنتاج قريبًا.

Sunday, August 18, 2024

مفهوم الثنائية: بين النور والظلام


تشكل الثنائية بين النور والظلام، الخير والشر، حجر الزاوية في الثقافة الإنسانية، مؤثرة على المعتقدات الدينية، الفكر الفلسفي، والفهم العلمي... لقد صاغ هذا المفهوم تصوراتنا حول الأخلاق، العدالة، والقوى الأساسية التي تحكم الكون، وظهر في الأساطير، الأديان، التاريخ، والعلم الحديث.


الثنائية الأسطورية والدينية

صورت الأساطير القديمة عبر الثقافات المختلفة الصراع بين النور والظلام كصراع كوني. في الزرادشتية، يعارض أهورا مازدا، إله النور، أنغرا ماينيو (أهرمان)، روح الظلام... يرمز هذا الصراع إلى النزاع المستمر بين النظام والفوضى، الخير والشر، حيث يمثل النور قوى الخلق والجمال، بينما يرمز الظلام إلى الدمار والقبح.

المعركة الكونية بين الإله أهورا مازدا والإله أهريمان في الديانة الزرادشتية


في الأساطير النوردية، يقتل الذئب الوحشي فنرير كبير الآلهة أودين، فيما يعد تمثيلا رمزيا للصراع الحتمي بين النظام والفوضى... وبالمثل، تقدم الأساطير اليونانية إيريس، إلهة الخلاف، التي غضبت لعدم دعوتها لحضور حفل زفاف بليوس وثتيس فتسببت في نهاية المطاف باندلاع حرب طروادة، مما يوضح كيف يشكل التفاعل بين الانسجام والصراع مصير الإنسان.

في الأساطير النوردية، يلقى الإله أودين حتفه في مواجهة مع الذئب الوحشي فنرير

في التقليد اليهودي-المسيحي، تبدأ رواية الكتاب المقدس بخلق الله للنور وفصله عن الظلام. يؤسس هذا الأمر لفكرة الثنائية، حيث يرتبط النور بالخير الإلهي، والظلام بالخطيئة والفوضى... ومع ذلك، تكون هذه الثنائية أكثر تعقيدًا في السياقات الدينية، حيث يُنظر إلى الشر غالبًا على أنه فساد أو غياب للخير، وليس بوصفه قوة موازية لكن بالاتجاه العكسي.

عبر الروايات الدينية، نجد شخصيات مثل الشيطان في المسيحية، الذي يجسد الظلام والشر المطلق، ويقف ضد نور الله. بالمثل، تقدم التعاليم الإسلامية إبليس كشخصية ظلامية تسعى لإغواء البشر... تعكس قصة آدم وحواء، والأفعي في جنة عدن، وتجارب الأنبياء المختلفة عبر الأديان هذا التوتر الثنائي بين النور والظلام، الخير والشر.

في الرواية الدينية، الشيطان يغوي آدم وحواء لأكل التفاحة  وعصيان الرب

 

التفسيرات الفلسفية للثنائية

تناول الفلاسفة الطبيعة الثنائية بين الخير والشر، النور والظلام. رأى سقراط أن الشر هو شكل من أشكال الجهل، حيث يرتكب الأفراد أفعالًا خاطئة بسبب نقص المعرفة الحقيقية بالخير... في المقابل، اعتبر هيغل الشر ضرورة لا بد منها، حيث يجادل بأن الخير لن يكون له أي قيمة إذا لم يكن هناك شر ليواجهه ويهزمه.

وسع الفلاسفة المعاصرون هذه الأفكار، حيث يقترح أتباع المدرسة الفلسفية النفعية، على سبيل المثال، أن أخلاقية الفعل تتحدد بناءً على مقدار مساهمته في السعادة العامة لأكبر عدد من الناس... حوّل هذا النهج البراغماتي للخير والشر التركيز من المبادئ الأخلاقية المطلقة إلى نتائج الأفعال، مما يعقد الرؤية الثنائية المبسطة.


المنظور العلمي: إعادة تعريف الظلام

من منظور علمي، الظلام ليس قوة أو كيانًا، بل هو ببساطة غياب النور. ينبعث من جميع المواد نوع من الإشعاع الكهرومغناطيسي، بغض النظر عن درجة حرارتها، مما يتحدى الفكرة الثنائية التقليدية التي ترى في الظلام قوة مستقلة. يتماشى هذا الفهم مع الاستعارة في الكتاب المقدس للرب كقائد للنور، الذي يحدد الظلام بغيابه وليس بوجوده.

في اتساع الكون الشاسع، حتى في أظلم المناطق بين المجرات، يوجد دائمًا شكل من أشكال الإشعاع، سواء من النجوم البعيدة أو إشعاع الخلفية الكونية... يشير هذا إلى أن الظلام الحقيقي، كغياب كامل للنور، لا يوجد فعليًا، مما يتحدى الثنائية التقليدية التي تضع النور ضد الظلام كقوى متعارضة.

حتى في أظلم المناطق بين المجرات، يوجد دائمًا شكل من أشكال الضوء 


الأبعاد النفسية والاجتماعية للثنائية

غالبًا ما يتأرجح السلوك البشري بين الأفعال التي تُعتبر خيرة وتلك التي تُعتبر شريرة، متأثرة بعدة عوامل، بما في ذلك الظروف النفسية والاجتماعية والبيئية. سؤال لماذا يرتكب البشر أفعالًا فاضلة أو شريرة حير المفكرين عبر التاريخ. كان سقراط يعتقد أن الأفعال الشريرة تنبع من الجهل، بينما يشير علم النفس الحديث إلى أن السلوك الأخلاقي يتأثر بتداخل معقد من الغرائز والتربية والمعايير الاجتماعية.

تستكشف الدراسات الحديثة في علم الاجتماع، علم النفس، والإيثولوجيا أصول الإيثار والعدوان، مشيرة إلى أن هذه السلوكيات متجذرة بعمق في تاريخنا التطوري. على سبيل المثال، أكد عالم سلوك الحيوان النمساوي إيرينيوس إيبل-إيبيسفيلدت أن الإيثار والأنانية هما سلوكيات غريزية تطورت كاستراتيجيات للبقاء، حيث فضّل الانتقاء الطبيعي أولئك الذين تعاونوا داخل مجموعاتهم الاجتماعية.

يشير الدكتور روي بوميستر، أستاذ علم النفس في جامعة فلوريدا، إلى أن الجميع قادرون على القيام بأفعال قد يعتبرها آخرون شريرة أو عنيفة أو قاسية... ويقترح أن ما نعتبره غالبًا أفعالًا شريرة لا يُنفذ دائمًا بخبث، بل كأفعال مبررة من قبل منفذيها بناءً على ظروفهم أو معتقداتهم.


نسبية الخير والشر

تتضح نسبية الخير والشر عند فحص الأحداث التاريخية والمعاصرة. غالبًا ما تُبرر الأفعال التي يعتبرها البعض شريرة من قبل من يرتكبها باعتبارها ضرورية أو حتى صالحة... على سبيل المثال، اعتُبرت هجمات 11 سبتمبر مهمة مقدسة من قبل منفذيها، بينما رأت الولايات المتحدة والغرب في الأعمال العسكرية في العراق وأفغانستان نضالاً من أجل الحرية والعدالة، رغم أن البعض الآخر رآها أعمالًا عدوانية وشريرة.

اعتُبرت هجمات 11 سبتمبر مهمة مقدسة من قبل منفذيها


تمتد هذه النسبية أيضًا إلى المستوى الشخصي، حيث قد ينفذ الأفراد أفعالًا يعتقدون أنها مبررة، فقط ليعيدوا النظر في أخلاقيتها لاحقًا... هذا الأمر يبرز الديناميكية التي تجعل الحكم الأخلاقي معقدًا، حيث لا يعتبر الخير والشر مطلقين، بل يتحدد كل منهما غالبًا وفق المنظور والسياق.

بالإضافة إلى ذلك، طرحت وجهات النظر الفلسفية مثل تلك التي عبر عنها الفيلسوف الإغريقي أبيقور أسئلة حول وجود الشر في عالم يحكمه إله كلي القدرة والخير. طرح أبيقور معضلة لا تزال قائمة حتى اليوم: إذا كان الله قادرًا على منع الشر ولكنه لا يفعل، فلماذا يوجد الشر؟ يشير هذا التناقض إلى أن فهمنا للخير والشر قد يكون غير مكتمل.


التأملات الحديثة و"المناطق الرمادية" في الواقع

في المجتمع المعاصر، تستمر فكرة الثنائية في تشكيل فهمنا للأخلاق والعدالة والجمال.. ومع ذلك، فإن التمييز الواضح بين الخير والشر، النور والظلام، يتعرض للتشكيك بشكل متزايد... في عالم مليء بالصراعات العالمية والنضالات السياسية والقضايا الاجتماعية المعقدة والمتعددة الأوجه، غالبًا ما يكون النهج الثنائي البسيط غير كاف.

على سبيل المثال، في مجال السياسة الدولية، يمكن أن تُعتبر الإجراءات التي تتخذها الدول أو القادة إما عادلة أو غير عادلة، حسب الزاوية التي تنظر منها إليها... ما يعتبره طرف ما كفاحاً من أجل الحرية والعدالة، قد يراه الطرف الآخر عملًا عدوانيًا أو استبداديًا... تبرز هذه النسبية حدود التفكير الثنائي وتؤكد الحاجة إلى فهم أكثر دقة لأفعال البشر ودوافعهم.

تظهر الفروق في السلوك الاجتماعي بين السكان في أجزاء مختلفة من العالم أيضًا هذه التعقيدات. على سبيل المثال، يقترح البروفيسور ستيفان هارناد من جامعة كيبيك في مونتريال أن الإيثار يزدهر في المجتمعات التي يتم فيها تلبية الاحتياجات الإنسانية الأساسية، مثل بلدان شمال أوروبا. في المقابل، تعاني المجتمعات ذات الموارد الشحيحة والكثافة السكانية العالية من مستويات أعلى من الجريمة والظلم، حيث يؤدي الصراع من أجل البقاء إلى أفعال يُنظر إليها على أنها شريرة.

تعاني المجتمعات ذات الموارد الشحيحة والكثافة السكانية العالية من مستويات أعلى من الجريمة

في المحصلة

الثنائية بين النور والظلام، الخير والشر، متجذرة بعمق في الثقافة الإنسانية، تشكل فهمنا للعالم ومكانتنا فيه. بينما تقدم الأساطير القديمة والروايات الدينية تقسيمًا واضحًا بين هذه القوى... يتحدى العلم الحديث والفلسفة هذه الرؤية المبسطة، بالكشف عن تداخل معقد بين النور والظلام – والخير والشر. ومع استمرارنا في استكشاف هذه المفاهيم، ندرك صعوبة تقسيم العالم إلى أبيض وأسود؛ فهو طيف من الظلال والتدرجات، حيث يتعايش النور والظلام ويعرفان بعضهما البعض في توازن دقيق... فهم هذا التعقيد يسمح لنا بالتنقل بشكل أفضل بين التحديات الأخلاقية التي نواجهها في عصرنا، مع إدراك أن الخير والشر ليسا مطلقين، بل هما غالبًا جوانب متشابكة من التجربة الإنسانية.


ليس مثل كل يوم - قصة قصيرة

  يخرج من بيته كما في كل صباح، وعندما ينزل من البناية، ينظر إلى الأعلى ليراها تودعه من النافذة، لكنها اليوم لم تكن هناك، وبالرغم من أن الأمر...