Sunday, May 4, 2025

ليس مثل كل يوم - قصة قصيرة

 




يخرج من بيته كما في كل صباح، وعندما ينزل من البناية، ينظر إلى الأعلى ليراها تودعه من النافذة، لكنها اليوم لم تكن هناك، وبالرغم من أن الأمر لم يكن معتادا بالنسبة إليه، فقد مر الحدث من دون تساؤلات كثيرة، إذ لربما تأخرت عن موعد خروجه اليوم، أو رن هاتف البيت، فذهبت للرد عليه، أو أي شيء آخر، لم يعر اهتماماً للأمر، وانطلق في سيارته باتجاه عمله.

لم يكن المشهد في طريقه كما عهده كل يوم؛ الازدحام غاب عن الطرقات، الأرصفة خالية من المشاة، المحال التجارية، بالرغم من أن أبوابها مفتوحة، لا يوجد بها زبائن، وحتى أصحابها ليسوا بداخلها.. وفجأة، بدأ يدرك الأمر؛ "أنا الوحيد هنا"، إشارات المرور كلها خضراء، ولا سيارات في الشارع إلا سيارته.

"هل هو يوم عطلة وطنية؟" يوقف سيارته إلى جانب الطريق، ويخرج هاتفه المحمول من جيبه ويبحث فيه؛ "لا، اليوم الإثنين" ولا يصادف تاريخه أي مناسبة دينية أو وطنية أو قومية.. يجرب الاتصال بزوجته، أراد أن يسألها، ربما فاته شيء، ربما.. يتصل بها، لكنها لا تجيب، يفكر في العودة إلى بيته، لكنه بات ِأقرب إلى الشركة التي يعمل بها، فيقرر مواصلة طريقه، على أن يتصل بزوجته حال وصوله. وإن كان باليوم عطلة ما، فبالتأكيد، سيجد أبواب الشركة مقفلة.. لكنه يصل، ويجد الباب مفتوحاً، يدخل وحيداً، لا يقابل أيا من زملائه في طريقه إلى مكتبه، حتى موظفو الأمن غائبون.. يصل إلى مكتبه، يضع حقيبة يده، ويذهب لتفقد بقية المكاتب في الأقسام المختلفة؛ الأنوار مضاءة، أجهزة الكمبيوتر وشاشاتها كلها تعمل... لكن لا أحد. يتوجه إلى النوافذ، ينظر إلى الشارع، كل شيء يبدو طبيعيا، بالنسبة إلى يوم مشمس، التفاصيل هي ذاتها، لكن من دون أي إنسان... أو حيوان.. أين الطيور؟ أين القطط؟

يعود إلى مكتبه وفي رأسه ألف سؤال، أين الجميع؟ ما الذي حدث؟ ولماذا أنا وحدي، من دون كل البشر، موجود هنا، أو في الشارع أو في المدينة كلها؟ يخرج هاتفه مجددًا، يحاول الاتصال، لكن ما من مجيب.. يحاول الاتصال بأخيه، بوالدته، بأصدقائه، لكن من دون جدوى.

يحاول الاتصال عبر الإنترنت بأي شخص، يحاول بكل الطرق وباستخدام كل التطبيقات، لكنه بدا وحيداً يصرخ في صحراء مقفرة، لا يجيبه فيها أحد، ولا يسمع صوته فيها بشر.. يحمل الحقيبة مجدداً، ويقرر المغادرة والعودة سريعاً إلى بيته، يتوجه إلى المكان الذي ركن فيه سيارته، يجد المكان، لكن سيارته اختفت، يبدأ في البحث في كل مكان حوله، ربما يكون قد تركها في موقع آخر، هل يكون، وبسبب الحالة النفسية التي كان فيها، قام بركنها في موقف غير موقفه المعروف؟ لكن كل المواقف خالية، لا توجد سيارات على الإطلاق، لا سيارته ولا سيارات غيرها.. "ما الذي يحدث اليوم؟" يفكر بصوت عال: "كيف أعود إلى بيتي؟ لا أرى سيارات أجرة، ولا أرى حافلات نقل".. يخرج هاتفه مجدداً، ويفتح تطبيق سيارات الأجرة، "نعم، إنه يعمل", يطلب سيارة، أي تكسي، كل ما يريده هو العودة إلى بيته وزوجته وأبنائه.. تطبيق المحمول يؤكد أن السيارة ستصل خلال ثلاث دقائق.. ينتظر وينتظر.. لكن الدقائق الثلاث لا تنقضي.. "ما العمل؟" يعاود محاولة حجز التاكسي؛ هذه المرة، عليه الانتظار خمس دقائق.. ومجدداً، يبقى عداد الوقت في التطبيق كما هو، لا يتغير... خمس دقائق.. يقرر العودة مشياً على الأقدام.. قد يستغرقه الأمر ثلاث ساعات أو أكثر، لكن ما من خيار آخر.

يبدأ مشوار العودة، خطوات متسارعة.. الحر شديد، الشمس حارقة، يفكر خلال تحركه، "لم تكن الحرارة مرتفعة هكذا قبل قليل، كل شيء غريب اليوم".. لكنه يواصل المشي.


=================

أثناء سيره في طريق العودة، تتوارد الأفكار على ذهن سامي، تتدفق كفيضان عارم، "أين الجميع؟" ينظر في كل الاتجاهات، لا يرى أحداَ، يتوجه إلى مقهى مفتوح تفوح منه رائحة القهوة، يدخل، يدور بين الطاولات الصغيرة، هناك فنجان قهوة ساخنة على المنضدة، يقترب منه، يتناوله ويتذوق القهوة.. يعيد الفنجان إلى مكانه، ويغادر، عاجزاً عن الفهم أو حتى محاولة تفسير ما يراه، أو بالأحرى، ما لا يراه في هذا المشهد الغريب الماثل أمام عينيه.

يعود إلى مسيره، وفي كل دقيقة، يخرج هاتفه من جيبه، ويحاول الاتصال بزوجته؛ ثم يعيده.. لا فائدة.

وخلال تحركه، يبدو أن الطريق تتحرك تحت قدميه ببطء شديد، بطء يجعله يحاول الهرولة تارة والجري تارة أخرى، يشعر بالإرهاق بسرعة وكأنه قطع مسافات شاسعة، رغم أنه لم يتحرك إلا بضعة أمتار.. يتوقف إلى جانب الشارع، ينظر إلى نوافذ المنازل المحيطة، إلى السيارات المتوقفة على جانبيه، يجلس على الرصيف، يغلق عينيه، أملاً في أن يتغير كل شيء عندما يفتحهما مجدداً، لكن الوضع باق على حاله.

ينهض ويعود إلى المشي، يخلع سترته، فالحر شديد، والسماء صافية لا سحب فيها على الإطلاق، وحدها حرارة نور الشمس الساطع، توجه ضرباتها إلى رأس سامي، يتعرق ويشعر بدوار شديد، يبحث عن مكان يستظل به، يدخل في إحدى البنايات، ويجلس على درجات السلم، يصرخ: "مااااا هذاااااا؟ ما الذي يحدث اليوم؟" في تلك اللحظة، يسمع صوت حركة في الشقة على يمينه، يقف ويتوجه إلى بابها، يقرع الجرس، يدق الباب، يكرر المحاولة، لا يجيبه أحد، ولا يفتح له الباب أحد.. لكنه يشعر بوجود شخص ما، أو شيء ما في الشقة.. يحاول اقتحام المنزل بفتح الباب عنوة، وبكل قوته، ينجح في دخول الشقة.. يبدأ في البحث في أرجائها، يدخل إلى غرفة النوم، يجد رجلاً جالساً على طرف السرير، وقد بدت عليه علامات الخوف، والدهشة، لرؤية صديقنا، الذي يتوجه إليه ويسأله: "من أنت؟ أين الباقون؟ لماذا باتت المدينة مدينة أشباح؟" تأتيه الإجابة من شخص يرتجف جسده رعباً: "لا أعرف، أفقت من نومي هذا الصباح لأجد نفسي وحيداً، زوجتي وأولادي وكل شخص أعرفه، كلهم اختفوا.. من أنت؟ من أين أتيت؟"، يتحدث ورعشة صوته تشي بذعر عميق يشعر به.. يجيبه: "أنا؟ اسمي سامي، خرجت من بيتي هذا الصباح.. خرجت، كما في كل صباح، إلى عملي.. لكن، ليس هناك من بشر.. بحثت في كل مكان.. أين ذهبوا؟" يخيم الصمت.. والرجلان ينظران إلى بعضهما بتوجس، لا يثق أي منهما بالآخر، مع أنهما يعيشان في نفس الواقع الغريب، الذي يصعب تفسيره أو حتى وصفه.

يسأل سامي: "هل يمكنني شرب بعض الماء من مطبخك؟"

يومئ الرجل برأسه إيجاباً.. يتوجها معا إلى المطبخ، يخرج زجاجة من الثلاجة ويقدمها إلى سامي، يشرب منها ويعيدها إلى الثلاجة.. 

-"هل نخرج معاً؟ قد يكون هناك آخرون".. يقول سامي؛

-"لا، أنا باق هنا.. ماذا لو عادوا؟ يجب أن أكون في انتظارهم."

-"كما تريد.. أنا سأواصل المسير.. يجب أن أعود إلى بيتي.. منى في انتظاري، بالتأكيد هي خائفة الآن".

يتوجه إلى الباب، ينظر خلفه.. "آسف على اقتحام منزلك".. ويغادر.. يصل إلى الشارع مجدداً، ثم يتذكر، لقد ترك حقيبته في الشقة، يعود مسرعاً.. ليجد الباب الذي كسر قفله قبل قليل، موصداً، وكأن شيئاً لم يكن.. يحاول مجدداً فتح الباب، يقرر اقتحامه، ويتمكن مجدداً من الدخول.. لكن في هذه المرة، الشقة فارغة تماماً.. أما حقيبته، فلا وجود لها.. يتوجه إلى الثلاجة، ليعثر فيها على الزجاجة مغلقة لم تُفتح.. يهز رأسه، يلقي نظرة على المكان، ثم يغادر.

يجلس عند مدخل المبنى.. يستعيد ذكريات الأسبوع الماضي.. حديث تحول إلى نقاش محتدم مع زوجته، عن وضعهما المالي.. ديون كثيرة، بعضها للبنوك، والبعض الآخر لوالديها.. وتكاليف المعيشة وأقساط المنزل ورسوم المدرسة الأجنبية لابنيهما.. تقول له إن عمله لا آفاق تطور له في المستقبل، وتطلب منه البحث عن وظيفة جديدة، يجيبها بحدة، أنه حاول ويحاول، لكنه لم يتمكن حتى الآن من العثور على أي فرصة أفضل، تقول له إنه لا يبحث بجدية.. وإن الأمر سينتهي إلى كارثة، إن لم يفعل شيئاً وبسرعة.

يعود سامي إلى يومه الغريب.. وينظر إلى الجانب المقابل من الشارع.. يبتسم.. ثم ينهض، ويبدأ في التوجه إلى الجانب الآخر.

=================


يصل سامي إلى الجانب الآخر من الشارع، ويقف أمام مبنى كبير مدخله وراء سلالم رخامية.. ينظر إلى المدخل، ويفكر بصوت عال: "لم لا؟ لا يوجد ما يمنعني من الدخول.. سأحل مشكلاتي.. لم لا استغل هذا الوضع! لن يتضرر أحد، لا يوجد أحد ليتضرر مما سأفعل.. أنا الوحيد هنا".

يدخل إلى مبنى المصرف الأكبر في مدينته، يتحرك بخطى بطيئة في قاعته، ينظر في كل زاوية من زوايا المكان.. يتوجه نحو غرفة الخزنة، حيث المبالغ النقدية.. الباب مشرع، والخزنة مفتوحة والأموال أمامه كثيرة، بعملات مختلفة.. يبتسم، ويبدأ في البحث عن كيس أو حقيبة لكي يعبأها بالنقود، يجد حقيبة مشابهة لتلك التي فقدها في الشقة قبل قليل.. يأخذها ويبدأ في وضع الأموال فيها، ثم يضع بعضاً في جيوبه، يأخذ الكيس المستخدم لسلة القمامة ويقوم بملئه أيضاً.. ثم يغادر.

الفكرة الوحيدة التي تدور في ذهنه الآن هي ضرورة الوصول إلى زوجته، ليبلغها بالخبر السار، الآن لديهما ما يحل كل المشكلات، ويجلب السعادة مجدداً إلى حياتهما، لا خوف من الغد، ولا قلق من تلقي مكالمة هاتفية من الدائنين، ولا تعليقات سخيفة أخرى من عائلة منى.. بهذه الأموال، سيتحررا من كل قيد، وسيتمكنان من العيش براحة واطمئنان.. لكن هل ستكون منى في البيت بانتظاره؟ لماذا لا تكون قد اختفت، كما حصل مع كل الآخرين؟ ماذا لو لم يجدها أو يجد ابنه وابنته؟ ما فائدة هذه الأموال إذن؟

يسارع إلى الخروج، يجب أن يصل إلى بيته.. بأي ثمن.. يحاول فتح إحدى السيارات على جانب الطريق، واحدة تلو أخرى، حتى يجد باب إحداها مفتوحاً، يركب ويبحث عن المفتاح، يجده في قفل السيارة، وكأن شخصاً كان يهم بالتحرك، قبل وقوع ما حدث.. يشغل السيارة، ويقودها باتجاه البيت.. تتسارع دقات قلبه، فبوصوله إلى المنزل، هو على ثقة من أن كل شيء سينتهي ويعود إلى طبيعته..

أخيراً، وصل.. يخرج من السيارة حاملاً ما جلبه من البنك، وينطلق نحو شقته.. يصل، ويفتح الباب.. ويدخل.. ينظر حوله، ويدور في أرجاء المكان.. "هذا ليس بيتي، هذا بيت آخر.. لا، إنه ليس منزلاً، إنه شيء آخر.. يبدو كعيادة أو.. مستشفى".. يتوجه نحو باب بعيد في آخر القاعة، يبدو وراءه نور متوهج.. يفتح الباب ببطء؛ يشعر بخوف شديد، فهو لا يعرف ما يوجد وراء ذلك الباب.. وكلما فتحه أكثر كلما اشتد توهج النور، حتى بات غير قادر على الرؤية أو حتى فتح عينيه.. يشعر بحرارة شديدة تغمره من كل جانب.

يحاول فتح عينيه مجدداً، بالكاد يرى وجوهاً تنظر إليه عن قرب.. "من أنتم؟" يسأل بصوت خافت، حتى تبدأ الصورة في الظهور أمامه؛ هو ممدد على سرير في مستشفى، وزوجته وطفلاه أمامه، ينظرون إليه والدموع في عيونهم.. تقبله زوجته، وتقول له: "أخيراً، عدت إلينا."


-"عدت من أين؟"

-"لقد تعرضت لحادث سير قبل شهر، وكنت في غيبوبة منذ ذلك الوقت".

-"حادث سير؟"

-"نعم، لكن الحمد لله، أنت الآن بخير، عدت لكي تبقى معنا إلى الأبد".

يفكر سامي فيما حدث، وفي المدينة التي تجول في شوارعها، وفي الشقة التي زارها، هو يتذكر كل شيء بدقائقه وأصغر تفاصيله.. الشعور بالوحدة والخوف، كان حقيقياً.. "لا، كانت مجرد هلوسات خلال وجودي في الغيبوبة" يقول لنفسه.. الآن، عاد إلى أسرته.. وإلى واقعه.

بعد أيام قليلة، يغادر المستشفى مع زوجته.. ويصل إلى بيته، يحتضن ابنه وابنته، ويتوجه إلى غرفة نومه.. يتوجه بسؤال إلى منى: "ماذا حل بحقيبتي؟" تتوجه إلى جانب السرير، وتجلبها إليه.. "ها هي".. تقول له، "لكن، لم أفهم حتى الآن، من أين جاءت كل هذه النقود، التي كانت بداخلها؟"


ينظر إليها وعلامات التعجب والدهشة بادية عليه.. "نقود؟ أي نقود؟"


انتهى


إياد أبو عوض

No comments:

Post a Comment

ليس مثل كل يوم - قصة قصيرة

  يخرج من بيته كما في كل صباح، وعندما ينزل من البناية، ينظر إلى الأعلى ليراها تودعه من النافذة، لكنها اليوم لم تكن هناك، وبالرغم من أن الأمر...