Sunday, February 17, 2019

مسيرون أم مخيرون؟

مسيرون أم مخيرون؟
في مفترق الطرق القدري، من یحدد  الاتجاه الذي سوف یسلكه كل منّا؟

مفهوم "القدر" عاش معنا منذ بدء التاريخ البشري.. خاض فيه الفلاسفة، اللاهوتيون، العلماء، والسحرة.. ألهم الكثير من التراجيديات اليونانية والروايات.. له كذلك دور في حياتنا اليومية؛ فمَن منا لم يقل يوماً: "كان أمراً مكتوباً ومقدراً"؟ لكن البعض يؤمن بحريته الكاملة من دون وجود أي تأثير لما يسمى بـ"القدر".

قد تحمل كلمة "القدر" معاني مختلفة لأفراد وشعوب وحضارات مختلفة.. بالنسبة للقدماء، الذين لم یتمكنوا من التوصل إلى تفسیرات تعتمد على آلیة السببیة (أي وجود سبب یؤدي لظھور الأثر) حول الظواھر الطبیعیة والأحداث المرتبطة بالإنسان، كان القدر، أو المستقبل، مرتبطاً بآلھة متقلبة المزاج؛ آلھة لا یمكن التنبؤ بتصرفاتھا.. وكان الأسلوب الوحید لتوقّع المستقبل ھو تفسیر الأحلام، ربط أحداث معینة بتحركات الطیور في السماء، أو حتى ربطھا بتصرفات الكلاب.. الغریب في الأمر أن بعض ھذه المظاھر التي تعود إلى مراحل طفولة الجنس البشري لا تزال حتى الیوم قائمة؛ من أعمدة "حظك الیوم" أو "برجك" في الجرائد والمجلات إلى قراءة الكف والفنجان وغیرھا.


عملیة اختیار العصي للتنبؤ بالمستقبل (Chi-Chi).. في هذه اللوحة التي تعود إلى العام 1840، كان الصینیون یحاولون أیضاً ترجمة النتوءات على قوقعة السلاحف والتي جاءت منھا الرسومات الأولى الخاصة باللغة الصینیة.


على الجانب الآخر، ھناك مَن یعتقد – بشكل قطعي – بأن الإنسان سید نفسه وأنه مسؤول عن كل ما حدث في ماضیه وما سیحدث في مستقبله؛ أي أن خیاراته ھي التي توصله إلى أیة نتیجة قد یصل إلیھا.. ففي الوقت الذي یؤكد فیه أصحاب ھذا الرأي عبثیة فكرة القدر، ھناك من یعتقد أن الحریة الكاملة في حیاة الإنسان ھي مجرد وھم؛ إذ توجد عوامل اجتماعیة تحكم خط سیر الإنسان منذ ولادته، وھناك عوامل فسیولوجیة (الـ DNA مثلاً) تحدد خصائل الفرد الشكلیة والباطنیة.
ھنري فورد وُلد لعائلة متواضعة من المزارعین، إلا أنه تمكن من تأسیس امبراطوریة عالمیة لصنع السیارات Ford Motor Company.. تحول فورد بذلك إلى مثال حقیقي لما یسمى بـلحلم الأمریكي".. واعتماداً على ھذا المثال، یرى كثیرون في الولایات المتحدة وحول العالم أن أي شخص یمكنه استخدام عمله وقدراته من أجل خلق قدره بنفسه.
ما ھو احتمال تمكننا من تغییر الظروف التي نولد بھا ومعھا؟ وما ھي أنواع المجتمعات التي تسمح لنا بذلك؟

الدیمقراطیة
المجتمعات الدیمقراطیة ھي الوحیدة في السماح للأفراد باختیار قدرھم بأنفسھم؛ فلھم الحق في اختیار العمل الذی یریدون، اختیار مكان السكن، اختیار شریك الحیاة.. وھي خیارات غیر مفتوحة في المجتمعات المغلقة، التي لا تعتمد النظام الدیمقراطي بكلیته في حیاتھا السیاسیة والاجتماعیة.
الدیمقراطیة تسمح بأكبر قدر من الدینامیكیة الاجتماعیة.. المجتمعات المغلقة تعتمد على أطر تقسم المجتمعات إلى طبقات على أسس ھي في معظم الحالات دینیة؛ مثل نظام Caste في الھند أو الأنظمة التي لا تعطي الطبقة الاجتماعیة الخاصة بالأقلیات غیر العربیة أو غیر المسلمة حقوقا متساویة مع الأغلبیة في بعض الدول العربیة.. لكن في الھند، تم إلغاء العمل بنظام الطبقة الاجتماعیة، الذي كان یعني تحدید القدر والمستقبل لمن یولد في عائلة ما.


التأثیر الخارجي: قوانین المجتمع الذي نعیش فیه قد تؤثر بشكل مباشرعلى قدر الفرد؛ عمله، واختیاره لشریك حیاته.
النظام الذي یترك مجالاً أوسع 
للاختیار الحر ھو النظام الدیمقراطي.
في الأعلى، نظام الطبقة الإجتماعیة في الھند Caste ھو المحدد لقدر الفرد طبقاً لمستوى الأبوین.


السلطة الأبویة كانت (ولا تزال في بعض الدول) ھي المحرك المركزي وصاحبة القرار في كل ما یخص توجيه حياه الأبناء نحو مسارات معینة أو إجبارھم على تغییر المسارات التي لم یرغب الآباء في أن یسلكھا أولادھم.. أما فیما یخص البنات، ففي العدید من الحالات، وضعت تفسیرات دینیة متشددة حدوداً على أقدارھن.. فدورھن محدد بالواجبات الزوجیة والأمومة فقط، من دون اعطائھن حتى إمكانیة التعبیر عن رأیھن في القرارات المصیریة في حیاتھن.
إذا نظرنا إلى الحالة الاجتماعیة، نجد أن مستقبل أبناء العائلات الغنیة كان مضموناً دائماً، فھناك الدراسة والعمل والمركز الاجتماعي والمسكن المناسب وكل متطلبات الحیاة الكریمة؛ في حین أن حیاة أبناء العائلات الفقیرة كانت دائماً صورة مكررة لحیاة آبائھم وأمھاتھم في مشقة الحصول على المأكل والملبس والمسكن.. ھذه العوامل ھي حقائق كانت موجودة في مجتمعات الماضي وفي الكثیر من المجتمعات في یومنا ھذا.
أما في المجتمعات الصناعیة الیوم، فأساس التطور والتغییر في حیاة الفرد یعتمد على مقدار العطاء الذي یقدمه في عمله.. عندما كان القادمون الجدد یصلون إلى القارة الأمریكیة، تم خلق نظام جدید للتطور ألا وھو مشروع المبادرة الفردیة؛ ما أوصلنا الى مفھوم "الرجل العصامي" أي الذي صنع نفسه بنفسه Self-made man.. في المجتمعات، التي تخضع لأنظمة شمولية، نجد أن وظائف الأبناء تحكمها علاقات الآباء، وفي حالات كثيرة، يسلك الابن مسار الأب في العمل أو في أخذ نفس مكان العمل.. في بعض الحالات، يرث ابن رأس الدولة والده لسبب بسيط، ألا وهو أنه ابنه. 

التعلیم
في عالمنا الیوم، یلعب التعلیم دوراً في غایة الأھمیة في فتح أبواب أصبحت مغلقة تماماً أمام الأمیین أو ذوي مستویات الثقافة المتدنیة.. واحد من أھم ھذه الأبواب ھو، بطبیعة الحال، معرفة لغة ثانیة أو ثالثة.
بعد ذلك نجد أن الدرجات العلمیة أصبحت توفر إمكانیة التطویر الذاتي والتقدم في مجال العمل.. إلا أن أھم نوع من أنواع التعلیم ھو التعلیم الذاتي؛ أي استمرار الرغبة في المعرفة والاطلاع والمتابعة للتقدم والإنجازات في مجال الدراسة الأصلي وفي مجالات أخرى.. فلنتخیل شخصاً أنھى دراسته الجامعیة عام 1990 في مجال ما، ووجد عملاً جیداً یتناسب مع دراسته، إلا أنه انقطع عن القراءة والاطلاع في مجاله أو في المجالات الأخرى ذات العلاقة في السنوات التالیة.. بالتأكید، بوصوله إلى عمر الأربعین (في عام 2008 مثلاً)، ستصبح كل معلوماته من الماضي، وإذا لم یقم بمتابعة التطورات في حقله، فإنه سیتحول إلى عبء على الشركة أو المنظمة التي یعمل فیھا.. ولیس من المستغرب أن یتم الاستغناء عنه.. إذا علمنا أن متوسط عمر الإنسان یتراوح بین 65 و 80 عاماً، فكیف یمكننا الاعتقاد أنه أمر طبیعي أن لا یتعلم الإنسان شیئاً جدیداً بعد السن التي یكون عندھا قد أنھى دراسته الجامعیة؛ أي حوالي الثانیة والعشرین، سوف يعني ذلك انه لن یضیف إلى معلوماته شیئاً جدیداً طوال 43 إلى 58 عاماً؟

DNA
یخفي الحمض النووي كل أسرار القدر لكل شخص منا: الصحة والمرض، الشخصیة والمیول الإجرامیة.. قَدَر من الممكن فك شیفرته منذ لحظة حصول الحمل.. إلا أن بیرتران جوردان Bertrand Jordan رئيس الأبحاث في مركز (CNRS) Centre National de la Recherche Scientifique في فرنسا یؤكد أن ھذا لیس صحیحاً؛ فالأبحاث تبرھن كل یوم أن العامل الرئیسي ھو البیئة التي یعیش فیھا الإنسان وأسلوب حیاته في ھذه البیئة.. "حتى الطول والوزن لا یتم تحدیدھما من قبل الجینات فقط".
لدراسة ھذا الجانب، توجه الباحثون الى دراسة التوائم المتماثلة Identical Twins ووجدوا أنه عند تقدمھما في العمر یكون وزن كل أخ مختلف عن وزن الثاني، ما یشیر الى أن أسلوب حیاة كل منھما كان له تأثیر مختلف على طریقة عمل الجینات الموروثة.. الأمر نفسه ینطبق على إمكانیة الإصابة بالسرطان والسكري أيضاً.

الکون
في الثالث عشر من أبریل 2029 ، سیمر كویكب ضخم بحجم استاد ریاضي على مسافة 35 ألف كیلومتر "فقط" من الأرض؛ أي أقرب من العدید من الأقمار الاصطناعیة، إلا أنه لن یصطدم بكوكبنا.. في الرابع عشر من سبتمبر 2099، سیقع آخر كسوف للشمس في القرن الحالي وسیغطي الظلام كندا والولایات المتحدة.. ھذه التنبؤات مصدرھا وكالة الفضاء الأمریكیة NASA وھي مؤكدة تثبت، في الوقت ذاته، وجود مستقبل "مكتوب" بالفعل یمكن للعلماء فك شیفرته بواسطة معادلات ریاضیة معقدة وبمساعدة أجھزة كمبیوتر متفوقة.. لكن ھل كل الأمور الخاصة بكوننا مثل ھذه؟
الحقیقة أنه من غیر الممكن توقع كل الأحداث بالدقة ذاتها، فكما أكد عالم الریاضیات الفرنسي ھنري بوینكاریه Henry Poincaré، فإن تغییراً بسیطاً في العوامل الإبتدائیة لإحدى الظواھر الجویة قد یؤدي في نھایة المطاف لإیصالنا إلى حالة جویة مخالفة تماماً لما تم توقع حدوثه مسبقاً.. كذلك نجد أنه في عالم الجسیمات الذریة المتناھیة في الصغر، لو تمكنا من معرفة موقعھا في لحظة ما فإننا لن نعرف "ما الذي تفعله" في اللحظة ذاتها.
إذاً، الطبیعة تضع حدوداً لقدرتنا على معرفة تصرفات الجسیمات الذریة، وبالتالي لا تسمح لنا بتوقع المستقبل بكلیته.

المشعوذون
في كل مراحل التاریخ الإنساني، كانت ھناك رغبة في معرفة ما یخبئه القدر للفرد أو للمجتمع أو للدولة ككل.. لھذا ظھر المشعوذون والدجالون الذین كانوا یتظاھرون بمعرفتھم بأسالیب التنبؤ بالمستقبل.. بعضھم حاول ربط الظروف الطبیعیة التي تسبق كارثة معینة لكي یتمكنوا من توقعھا في المرات اللاحقة (أي أنھم كانوا یعمدون الى خلق نظام عملي زائف یشبه الطریقة العلمیة المعروفة لنا الیوم).. في حین أن البعض الآخر قام باختلاق طرق أخرى لا أساس لھا من الصحة في توقع المستقبل.. في بعض الحالات، كانت توقعاتھم تتحقق (ولو جزئیاً)، إلا أنه طبقاً لقوانین الاحتمالات التي نعرفھا الآن، العدد الأكبر من توقعاتھم لم یتحقق.. من ھذه الطرق نجد التنبؤ باستخدام لھب النار، أو باستخدام الماء.. ثم كان ھناك التنبؤ باستخدام الحیوانات والطیور.. ثم تطورت الأمور، واتجه المشعوذون للتطلع إلى السماء وقراءة المستقبل من تحركات النجوم والكواكب، هذا فضلا عن قراءة الكف أو استخدام ورق اللعب.. بعض ھذه الظواھر لا یزال موجوداً حتى الیوم.


منذ بدء البشریة، نظر الإنسان الى السماء لیلاً وحاول فھم تحركات الأجرام السماویة.
في معظم الأحیان، كان یحاول فھم التحركات من أجل التنبؤ بالمستقبل.
الیوم یمكن للعلم التنبؤ بتحركات الأجرام السماویة لعشرات السنین، لكن من غیر الممكن ربط ھذا بقدر الإنسان.


الواقع ھو أن البحث عما یخفیه المستقبل ھو عامل مزروع في طبیعة الإنسان الخائف من الغد والراغب في حمایة نفسه وأفراد عائلته من المخاطر التي لا یعرف عنھا بعد.
لكي یتمكن أي مجتمع من التخلص من ھذه الظواھر، علیه ألا یركز على محاربة المشعوذین والدجالین أولاً، بل علی تثقیف أفراده بأسالیب منطقیة، علمیة، وطبیة، وأن یوضح لھم أن الإجابات الصحیحة تأتي من ھذه الأسالیب فقط.

المقال نشر للمرة الأولى في العدد رقم 18 من مجلة آفاق العلم عام 2008.

No comments:

Post a Comment